كي لا تتكرّر واقعة إحراق القنصلية الدنماركية

في بداية العام 2006 إندلعت سلسلة احتجاجات في العالم العربي والإسلامي احتجاجاً على نشر رسوم مسيئة للرسول، ما أحدث أزمة اجتاحت تداعياتُها معظم عواصم العالم، لكنّها اتخذت في المنطقة العربية منحى آخر بعدما انطلقت الشرارة من دمشق حيث أحرق «المتظاهرون» مقرّ سفارة الدنمارك في خطوة اعتُبرت إشارة لنقل العدوى إلى لبنان، فحصل إحراق القنصلية في بيروت في الخامس من شهر شباط عام 2006 تاركاً جرحاً كبيراً على المستوى الوطني ونموذجاً لإساءة استغلال المشاعر الدينية لتوريط الشباب في أعمال العنف.

سبق إحراق القنصلية الدنماركية في بيروت حملاتُ تحريض واسعة، وتردد أنّ أموالاً طائلة دُفِعت، من جهات سياسية مستفيدة، لجرّ الشباب إلى تلك الواقعة، وما أشبه اليوم بالبارحة. وبدل إحراق سفارة السويد في دمشق، أحرقتها جماهير «الممانعة» في بغداد لتنطلق حملة تحريض واسعة من أجل الاصطدام بالوجود الدبلوماسي السويدي في لبنان تحت عنوان الاحتجاج على سماح السلطات السويدية بإحراق نُسَخٍ من القرآن الكريم بذريعة تأمين حرية الرأي.

تصدّر الأمين العام لـ»حزب الله» المشهد وأعطى هذه المسألة اهتماماً خاصاً، فأفرد لها في خطابه في العشرين من تموز الجاري مساحة كبيرة ودعا إلى «تجمّعات في كلّ الأحياء والقرى والحضور في كل المساجد»، مؤكداً «رفع الناس مصاحفهم، والاعتصام، مطالبين الدولة باتخاذ موقف ضدّ السويد».

من حيث الشكل، شكّلت هذه الدعوة موقفاً نموذجياً في الاحتجاج الحضاري ضدّ الحكومة السويدية، لكنّ الملاحظة الهامة في هذا السياق هي أنّ التعبير اقتصر على التجمّع في مساجد الأحياء والقرى ولم يشمل الاحتجاج أمام مبنى السفارة السويدية حيث لم يحضر سوى بضعة أفراد من الضاحية الجنوبية عبّروا عن صدمتهم لعدم حضور جماهير غفيرة لمشاركتهم وقفتهم.

يلعب «حزب الله» بشكل محترف على حدود التوتير ويرفع مستوى التصعيد مع العواصم الأوروبية بالمواقف، لكنّه يحاذر اللجوء إلى الاصطدام المباشر، لذلك استثنى السفارة من الأماكن التي كان يفترض أن يشملها الاحتجاج، وهنا تكمن أهمية ما يقوم به في عملية «الابتزاز السياسي» الجارية بينه وبين أوروبا والغرب الأميركي، كما يرى خصومه.

لماذا استثنى نصرالله مقرّ السفارة السويدية من لائحة الاحتجاجات وحصرها في مساجد الأحياء والقرى؟ بكل بساطة لأنّه لا يريد حصول اصطدام أو انفلات للجمهور الشيعي يشبه ما حصل في العراق منذ أيام، ولا ما حصل في لبنان عند اقتحام السفارة الدنماركية عام 2006.

قد يكون هذا مفهوماً في إطار استراتيجيات «حزب الله» الإقليمية والدولية، لكنّ علامات الاستفهام بدأت تظهر مع تحرّكات لمشايخ يُشتبه في أنهم تابعون للحزب في الساحة السنية وفاعلون في إطار ما يسمى «السرايا اللبنانية للمقاومة» من أجل الاحتجاج الشعبي والتظاهر ضدّ السفارة السويدية في بيروت مع لهجة تحريض عالية ودعوة لاستدراج أعداد من الشبان والدفع بهم نحو هذا النمط من السلوك الميداني، بحيث تتحوّل هذه الحركة إلى كرة ثلج في الشارع السنّي للوصول إلى سفارة السويد بحيث نكون أمام التكرار الثاني المحتمل لإحراق القنصلية الدنماركية.

الحذر هنا يجب أن يكون حاضراً لأنّ التحريض على التظاهر أمام السفارة السويدية والذي قد تتبناه هيئات دينية وأخرى شعبية وسياسية يحمل في طياته مخاطر الوقوع في ورطة الاختراق والانفلات والفوضى ليتكرّر المشهد المنصرم أمام القنصيلة الدنماركية، والذي أوقع ضحايا وطال كنائس بشكل مشبوه ومتعمّد وكأنّ هؤلاء حضروا لضرب الكنائس وليس للاحتجاج ضدّ الدنمارك، وليكن النموذج الذي اعتمده «حزب الله» بحصر التحركات في المساجد معتمداً لدى الجميع، وإذا كان لا بُدّ من الحضور إلى السفارة السويدية فإنّ وفداً محدود العدد يتحرّك من دون إثارة إعلامية يتولى إيصال الاحتجاج إلى السفير السويدي سيكون كافياً.

إنّ التركيز على هذا العنوان يأتي لأنّ ردّ فعل المسلمين تجاه كتابهم المقدس عالية وحامية، وهذا سيتيح استغلال بعضهم لغاياتٍ تستهدف الأمن وتعيد توريط مئات الشباب في واقعة أمنية مكشوفة، وهذا ما يجب الانتباه إليه فالمؤمن لا يُلدَغُ من الجُحْر مرّتين.

لقد تحصّن الموقف الوطني اللبناني في هذه القضية من خلال رفض القوى والتيارات كافة جريمة إحراق القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية المقدّسة، وهذا ما عبّرت عنه بشكل خاص القيادات المسيحية السياسية والدينية، مع استثناءات معروفة، وجاء موقف البابا فرنسيس الرافض والمدين لإحراق المصحف بمثابة دعوة عامة لتوحيد المواقف على أساس أنّه يجب ألا يتم «استغلال حرية التعبير كذريعة لاحتقار الآخرين».

إنّ إجماع اللبنانيين على احترام بعضهم دينياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً ورفض الإساءات للأديان من قبل الجميع هو قاعدة ذهبية لحماية السلم الأهلي ولتحصين الموقف الداخلي، وكان موقف «القوات اللبنانية» الذي توجّه إلى الحكومة السويدية بالكفّ عن السماح بإحراق القرآن خطوة نوعية لإظهار التضامن في وجه ما يسيء للشركاء المسلمين في الوطن، وهذا ما يحتاج إلى التوسع والترسيخ في السلوك السياسي والديني والاجتماعي.