لبنان أمام خيارين: دولة بجيش واحد أو سقوط الجميع في الفوضى

يبدو أن لحظة الحقيقة قد بدأت تدق أبواب لبنان بصوت واضح لا يحتمل التأويل. في خطاب لا يشبه سواه، خاطب رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون  شعبه ومؤسساته بلغة تتجاوز المجاملات، وتلامس جوهر المعضلة الوطنية، حيث لا استقرار بلا سيادة، ولا سيادة بلا جيش موحد، ولا جيش فاعل ما لم تُمنح له الحصرية الكاملة في امتلاك السلاح وقرار استخدامه.

الرئيس عون ، الذي تحدث بمناسبة عيد شهداء الجيش، لم يكتفِ بتكريم الشهداء ولا بالإشادة بالمؤسسة العسكرية، بل وضع البلاد كلها أمام لحظة مفصلية، حاسمة بين مشروعين لا يلتقيان: مشروع الدولة ومشروع الفوضى. مشروع يتطلب قراراً تاريخياً بتفويض الجيش حماية الحدود والسيادة، ومشروع آخر يبقي البلاد رهينة التعدد في القرار والسلاح والانقسام في الولاءات.

في جوهر الخطاب، دعوة مباشرة إلى كل القوى السياسية، عبر المؤسسات الدستورية، لاقتناص الفرصة التاريخية وتكريس حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني وحده، اليوم قبل الغد، بما يعيد للبنان ثقة العالم وشرعية الدولة. فالاعتداءات الإسرائيلية لا تتوقف، والانتهاكات باتت بالآلاف منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024، فيما الإرهاب المتنقل لا يزال يتربص بوحدة لبنان وثقافته وتعدديته. وبين العدو الخارجي والخطر المتطرف، لا يمكن للبلد أن يصمد إلا بجسم عسكري واحد وشرعي، هو الجيش.

الخطاب كان واضحًا بأن الدولة، رغم محدودية إمكانياتها، نفذت التزاماتها ضمن قرار وقف النار، من خلال انتشار الجيش جنوب الليطاني، وجمع السلاح، وتدمير ما لا يصلح منه، بشهادة اللجنة العسكرية الخماسية. وقدّم مثالًا ناصعًا على ذلك الشهيد المقدم محمد فرحات، الذي سقط بطلاً بعدما واجه الاحتلال علنًا، ليكون شهيد كل لبنان، من جنوبه إلى شماله، ومن مسجده إلى كنيسته.

ولم يغب عن الخطاب كشف مهم لمسار المفاوضات الجارية مع الولايات المتحدة، بتنسيق رئاسي ثلاثي بين الرئاسات، حيث تم تعديل مسودة أميركية تضمنت بنودًا صريحة، تبدأ بوقف شامل للعدوان الإسرائيلي، وتنسحب إلى انسحاب كامل من الأراضي المحتلة، وتسليم كل السلاح غير الشرعي، بما فيه سلاح حزب الله، للجيش اللبناني، مقابل دعم دولي للجيش بمليار دولار سنويًا لعشر سنوات، ومؤتمر دولي للإعمار، وترسيم الحدود مع سوريا، وحل ملف النزوح، ومكافحة التهريب والمخدرات.

هذه البنود، بحسب الرئيس عون ، لا يمكن لأي لبناني صادق إلا أن يتبناها، لأنها تضع حدًا للاستنزاف، وتمنع إسرائيل من الاستثمار في الانقسام، وتعزز سلطة الدولة، وتعيد الأرض لأهلها، وتمنح لبنان فرصة تاريخية لإعادة الإعمار، والانطلاق نحو إصلاح اقتصادي مستدام، بغطاء دولي وعربي لا يجوز التفريط به.

لكن الرئيس عون لم يترك المساحة للالتباس. هو يدرك أن تنفيذ هذه البنود يتطلب قرارات موجعة للبعض، لكنها حاسمة. هو لا يطلب نزع السلاح من باب الخصومة، بل من باب إنقاذ مشروع الدولة، وتفويت الفرصة على إسرائيل وحلفائها، الذين يسعون إلى إبقاء لبنان ساحة مفتوحة للحروب بالوكالة والصراعات الداخلية. ومن هنا جاء نداؤه الصريح إلى "الذين قاتلوا العدو"، ألا يُبددوا تضحياتهم بالرهان على خارجٍ ما، أو بسلاح موازٍ للدولة، أو بجهات لم تعد تملك لا القدرة ولا الرغبة في خوض معارك بالنيابة.

على الضفة الحكومية، بدا الخطاب وكأنه يرد على المشككين. حكومة نواف سلام، بحسب الرئيس عون، تعمل بصمت، لكن بفعالية. وقد أولت ستة ملفات الأولوية القصوى: بدءاً من إصلاح القضاء وتفعيل المحاسبة، مروراً بضبط الأمن والسلاح، وصولاً إلى معالجة أزمة المودعين، وإعادة هيكلة الإدارة، والاستعداد للانتخابات، وإعادة ربط لبنان بعلاقاته العربية والدولية. وكل ذلك يجري رغم ضيق الوقت وصعوبة الظرف، في محاولة لتثبيت الدولة على قدميها مجدداً.

وفي الختام، كانت الرسالة الأوضح: لن تكتمل أعيادنا إلا بتحرير كل الأرض، وترسيم كل الحدود، وحصر كل سلاح بيد الجيش، والانطلاق في ورشة الإعمار. لبنان لا يحتاج اليوم إلى خطابيات فارغة أو رهانات كاذبة، بل إلى قرار وطني جامع، شجاع، يُنهي حقبة التشتت ويبدأ مشروع بناء الدولة فعليًا. فإما أن يكون هناك جيش واحد يحمي الجميع، أو نترك أنفسنا لمجهول قاتم لا يُبقي ولا يذر.

لقد اختار الرئيس عون طريق الدولة، فهل يجرؤ الآخرون على اللحاق به؟