المصدر: المدن
الكاتب: منير الربيع
الجمعة 17 تشرين الأول 2025 10:57:55
نجا لبنان سابقاً من الغرق في حقل كاريش. هذا ما يجمع عليه المسؤولون، وصولاً الى استحضار آلية التفاوض التي اعتمدت في حينها لإنجاز عملية ترسيم الحدود البحرية. لكنه وقع لاحقاً في البرّ، إثر حرب شرسة شنّتها إسرائيل، التي تعلن شراهتها للانقضاض على مساحات برية، وربما بحرية لاحقاً. ولأنه لبنان المأزوم، فلا بد له أن يغرق أخيراً في ما هو أصغر من كاريش.. في بئر "تنورين"، وفي مستنقعات الطوائف وآبار ضغائنها. ما حوّل البلاد بمؤسساتها وإعلامها وجماهيرها إلى بيئة ملوثة سمعياً وبصرياً وسياسياً ولغوياً وأخلاقياً.
بلحظة خاطفة ورعناء، غرق لبنان وبعض وزرائه في سياسة التسرع أو الشعبوية، إن لحظة الإقدام على اتخاذ القرار، أو في تبريره أو في لحظة التراجع عنه.
هذا الـ"لبنان" هو الذي يريد لنفسه أن يقارع إسرائيل، التي يقودها أحد أخبث الخبثاء، فينظر إلى نفسه كملك ملوكها، الطامح إلى توسيعها وتكبير حجمها ودورها.
وللمقارعة أشكال متعددة، بعضهم يصر على المقارعة العسكرية أو الأمنية، ولو كلامياً، من خلال التمسك بقرار "بناء القدرات" وعدم التخلي عن مكامن القوة لديه. وبعضهم الآخر يصرّ على التفاوض أو إيكال المهمة إلى وسطاء، عبّروا عن تموضعهم الواضح إلى جانب إسرائيل، والتي جاء إليها الرئيس دونالد ترامب متصدراً مشهدها السياسي حالياً، ويريد الاحتفاظ بصورته كحام لمستقبلها لاحقاً. فمن على منبر الكنيست وبعدها ذهب بالوكالة والأصالة عنها إلى شرم الشيخ، حيث وقع مع دول عربية وإسلامية بإسمها اتفاق إنهاء الحرب في غزة، بما يتيح تكريسها كضابط إيقاع لمنطقة الشرق الأوسط.
يقاتل بنيامين نتنياهو على 7 جبهات كما يقول. لكن لبنان يقاتل على جبهات أكثر. فالجبهة مع صندوق النقد الدولي مفتوحة، وجبهة المؤسسات وإصلاحها وموظفيها وتحسين رواتبهم لا تُغلق. جبهة "تنورين" قابلة لأن تتوسع أكثر بكل أبعادها، وما تحتوي من أمراض توهم اللبنانيون أنهم دفنوها سابقاً، لكنها سرعان ما تفجرّت وظهرت وتنامت. جبهة أخرى لا تزال مفتوحة وستبقى، وهي جبهة بسط الدولة سيادتها على كامل أراضيها، وحصر السلاح بيدها، والتي تتفرع منها جبهات عديدة، أولها كيفية مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة، وكيفية دفع إسرائيل إلى الانسحاب من الجنوب، الى جانب كيفية تقوية الجيش وزيادة عديده وتطوير عتاده.
أما الجبهة المستجدة حالياً، فهي عنوان التفاوض مع إسرائيل للبحث في الانسحاب وفي ترسيم الحدود البرية، والتي يريد لبنان استعادة تجربة التفاوض غير المباشر واعتماد الديبلوماسية المكوكية، التي أوصلت إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية. بينما هناك من يشكك بالدور الأميركي وبأنه لم يعد يأخذ دور الوسيط بل هو يمنح الغطاء الكامل لإسرائيل، لأنه ما بعد 7 أوكتوبر غير ما قبلها. ويستند هؤلاء إلى تجربة التنصل من اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي تم توقيعه في 26 تشرين الثاني 2024. ولمواجهة كل الضغوط، يستعد لبنان لإطلاق حملة ديبلوماسية جديدة عبر جولات لمسؤولين على مختلف العواصم، بدءاً من الولايات المتحدة، لشرح ما يتعرض له، ويطلب الضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها.
يقارب المسؤولون مثل هذا التفاوض وسيناريوهاته، بين من يرفض ذلك ومن يعتبر أن لا خيار سواه، فيما الخلاصة أن أقصى ما يمكن الوصول إليه هو اتفاق هدنة، ولو جرى تغيير عنوانه إلى إنهاء الحالة العدائية والأعمال الحربية. وهو ما يُفترض أن يقابله انسحاب إسرائيلي ووقف للاعتداءات، شرطه أن يتم تقويض قدرات حزب الله مالياً، اقتصادياً، وعسكرياً، وصولاً إلى سحب سلاحه. بينما الحزب لم يعلن موافقته حتى الآن، على الرغم من بروز معلومات تشير إلى أن الآراء لديه متناقضة، بين من يعتبر أن هناك مرحلة قد انتهت، وهي مرحلة السلاح واستخدامه، وبين آخرين يتمسكون به ويعتبرون أنه خيارهم الوحيد للنجاة.
ما بين الرأيين غرق اللبنانيون أيضاً، على رصيف الروشة، وفي المدينة الرياضية. فالروشة شهدت على حدثين، مسيرة مصابي البايجر التي مرّت بسلاسة وبلا أي رد فعل، وموقعة "إضاءة الصخرة"، التي رفع فيها سقف التحدي. أما المدينة الرياضية، فكانت المشهدية لإظهار القوة ولكن بإعلان انضمام 70 ألف كشفي جديد إلى كشافة الإمام المهدي. هنا أيضاً يغرق اللبنانيون في التفسير والتأويل، فهل المسيرة وموقعة الإضاءة ومشهدية الكشاف كانت إشارات إلى انتقال حزب الله نحو المسار المدني والسياسي، بعيداً عن التعبئة العسكرية؟ إذ أن من كان يحتفي بأكثر من 100 ألف مقاتل، أصبح يحتفي بالكشفيين؟ هو غرق لن يكون من السهل على اللبنانيين الخروج منه.
الجبهة الأهم والتي تصب عندها كل معارك الجبهات الأخرى، هي الانتخابات النيابية، بكل ما تقتضيه من حماسة، وحملات يومية يتجند فيها كثيرون، وتضج بالكثير من الغلو وحتى الغوغائية. فمثل هذا الاستحقاق وجودي لكثيرين، وذو منفعة للأكثر منهم، والرزق لمن يعلو صوته أكثر. على هذه الجبهة تُخاض حروب في السياسة، والأمن، خلف الكواليس وأمام العدسات. الجميع يتعاطى مع الاستحقاق بوصفه واقعاً، يحضّر للمعركة والنزول إلى الساحة، بين من يريد أن يحفظ دوره وموقعه ووجوده، ومن يسعى إلى الفوز لحجز موقع جديد أو لتعزيز الظهور.
بعيداً، عن سجال انتخاب المغتربين أو عدمه، وعن تخصيصهم بنواب أو الفشل بذلك، إلا أن البلاد تعيش على إيقاع السجال بين تأكيد حصول الانتخابات، والظنون باحتمال تأجيلها. الجميع يريدها، والجميع أيضاً يريد تأجيلها لحفظ ما أمكن من الحفاظ عليه ولضمان عدم التراجع، ولزوم حسابات الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام 2031.
على هامش تأكيد إجراء الاستحقاق، وفي ظل الحرب المفتوحة حول انتخاب المغتربين، تشهد الكواليس على همس مستمر حول احتمالات التأجيل. فالعنوان الأكبر لهذه الانتخابات يتعلق بمصير السلاح، إذ ثمة من يعتبر أنه من الآن إلى أن يحين موعدها بعد 8 أشهر لا بد أن يكون مصير السلاح قد حسم، انطلاقاً من المهلة الدولية الممنوحة، ولأنه لا يجب إجراء الاستحقاق في ظل احتفاظ حزب الله بسلاحه. في مقابل من يريد التمسك بالسلاح انطلاقاً من فكرة الحفاظ على الوجود، الذي لا بد له أن يرتبط بصناديق الاقتراع وما تفرضه من واقع سياسي، لناحية عدم تغيير التوازنات القائمة حالياً. في حالة وقوع التأجيل، فإن الغرق في السجال سيكون مشابهاً تماماً للغرق في بئر "تنورين"، وتقاذف المسؤوليات.