المصدر: الديار
الكاتب: ندى عبد الرزاق
الثلاثاء 16 أيلول 2025 08:07:52
منذ خريف 2019 دخل لبنان مرحلةٍ من الأزمات المركبة: احتجاجات شعبيّة واسعة انطلقت في تشرين الأول 2019، تلتها أزمة مالية ونقدية طالت تحويلات العملة والودائع المصرفية، ثم صدمات متتالية شملت جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. وقد أدت هذه السلسلة من الصدمات إلى تقلّص اقتصادي حادّ، انعكس بارتفاع البطالة وانخفاض الناتج المحلي، وجعلت سوق العمل المحلية غير قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الخريجين والمهنيين، فظهر العمل الحر الرقمي كاستجابة عملية وسريعة للتدهور الاقتصادي.
التطور الرقمي يغير مفهوم الاعمال الحرة!
على صعيد عملي، يقول دكتور جامعي وخبير في الاقتصاد الرقمي في الجامعة اللبنانية فضل عدم الكشف عن اسمه: "من منظور تكنولوجي، هناك ثلاثة عناصر أساسية حفّزت تحوّل اللبنانيين إلى العمل الحر عبر الإنترنت، مثل:
أولا: انتشار منصات العمل عن بُعد العالمية من خلال مواقع متخصّصة وفّرت قنوات طلب عمل دولي متاحة تقنياً بدون اعتمادٍ على البنية المصرفية المحلية.
ثانيا: أدوات المدفوعات الدولية (خدمات تحويل الأموال الرقمية المتنوعة) التي خلقت شرايين بديلة لاستلام العوائد بالدولار وتجاوزت قيود رأس المال المحلية.
ثالثاً: توافر دورات تدريبية ومنصّات تعلّم رقمي (منظمات محلية ودولية) سهلت إعادة تأهيل القوى العاملة من مهام تقليدية إلى مهارات رقمية قابلة للتصدير وتطوير برمجيات، تصميم واجهات، كتابة محتوى، تسويق رقمي وغيرها. وقد سلطت تقارير قطاعية عالمية الضوء على زيادة الاعتماد على العمل الحر كحقل متنام في الأسواق الناشئة خلال الفترة نفسها".
ويكشف لـ "الديار": "ان التحوّل لم يأتِ بلا تحديات تقنية وتنظيمية، فالبنية التحتية للاتّصالات والكهرباء المتقطّعة وقيود رأس المال والقيود المصرفية، وغياب حماية اجتماعية للعمال المنخرطين في اقتصاد المنصّات، وتعقيدات التحصيل الضريبي والجمركي لكلّ الدخل الأجنبي، كلّها عوامل شكلت حاجزاً أمام توسّع سلس ومؤسّس للعمل الحر".
ويفصّل: "هذا خلق حلول محلية وهجينة تضم شبكات عملاء عبر الشتات اللبناني، ومشروعات مدعومة من مؤسّسات دولية لتعزيز المهارات الرقمية، ومجتمعات تقنية محليّة تعمل على سدّ الفجوة بين العرض والطلب العالمي. وأشارت تقارير سياسات محلية ومنحٍ دولية إلى أنّ منصة العمل عبر الإنترنت أصبحت "خطّة بقاء" للكثيرين لكنها لا تعوّض غياب سياسة شاملة لحماية العاملين الحرّين".
ويضيف: "من زاوية اقتصادية-اجتماعية، نتج من هذا التحوّل آثار مزدوجة: على المدى القصير سمح العمل الحر بالكسب بالعملات الأجنبية أو بالدولار عند التحويل، ما خفف من وقع الانهيار النقدي على بعض الأسر. على المدى المتوسط طرحت تساؤلات حول بقاء هذه الوظائف، لجهة أمن الدخل والتقاعد والتوظيف الرسمي، وإمكانية تحويل هذه الطاقات إلى منظومة تقنية محلية مُستدامة تساهم في الانتعاش الاقتصادي بدلاً من أن تظلّ مجرد منفذ فردي للهجرة الاقتصادية".
ويعود ليؤكد الدكتور الجامعي: "ان العمل الحر في لبنان ليس مجرّد "اتجاه مؤقت" بل هو نتاجٍ منطقي لتقاطع أزمتيّ الاقتصاد والسياسة مع تطوّر تقني عالمي. لذا، يتطلب فهم تاريخه مقاربة متعددة المستويات: بنية تحتية رقمية ومدفوعات دولية، برامج تكوين رقمي، سياسات حماية اجتماعية ملائمة، وآليات للاستفادة من الخريطة العالمية للطلب الرقمي".
قصص نجاح واقعية
عمليا، يجلس جاد وهو شاب لبناني في الخامسة والعشرين، ينهمك في العمل على حاسوبه المحمول في أحد مقاهي الضاحية الجنوبية لبيروت تحيط به بطارية بديلة واتصال انترنت من المقهى وأحيانا من هاتفه الخلوي. هذا المشهد، الذي يبدو بسيطا في ظاهره، يلخّص التناقض اللبناني: انقطاع كهرباء يتجاوز 12 ساعة يوميا، خدمة إنترنت متقطعة، لكن خلف الشاشة شاب يبرمج لشركات أوروبية ويتقاضى أجره بالدولار وأحيانا بالبيتكوين. هذا الدولار، الذي فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها أمامه منذ 2019، يمثّل بالنسبة لآلاف الشباب وسيلة للاستمرار داخل البلاد بدل خيار الهجرة.
في جميع الأحوال، ليست قصة جاد استثناءً، اذ يقول "الديار": "عملي هو انعكاس لواقع جديد مع تدحرج أكثر من 80% من الوظائف التقليدية في القطاع الخاص وتراجع متوسط الرواتب المحلية إلى ما دون 150 دولارا شهريا بالقيمة الفعلية. لذلك، اعتبر نفسي من الجيل الرقمي المستقل الذي يقتنص فرص العمل الحر عبر المنصات العالمية".
لعله من المهم القول في هذا السياق، ان هؤلاء الشباب دمجوا مهارات تقنية، من تطوير البرمجيات إلى التسويق الرقمي والتصميم، مع أدوات دفع وتحويلات مالية بديلة، ليبنوا اقتصاداً موازٍ لا يعرف حدود الجغرافيا ولا قيود السوق المحلية.
من الجمود إلى الفرص
على خط متصل، لا شك ان العمل الحر ظهر عبر الإنترنت كأحد المخارج القليلة المتاحة أمام الشباب. وتكشف الارقام بحسب الدكتور الجامعي هذا التحوّل: نحو 29.8% من القوى العاملة في لبنان كانت تعمل لحسابها الخاص عام 2022، وفق بيانات البنك الدولي، وهي نسبة تشمل شريحة كبيرة من العاملين في الاقتصاد الرقمي. كما تشير تقديرات إعلامية وبحثية إلى أن حوالى 6% من الشباب اللبناني عام 2023 اتجهوا إلى العمل الحر مباشرة عبر المنصات الرقمية. وفي قطاع البرمجة وحده، أظهر تحليل حسابات LinkedIn أنّ ما يقارب 22 ألف مبرمج لبناني يعرّفون أنفسهم كعاملين عن بُعد لمصلحة شركات في الخارج".
ويشير الى: "وجود بعض المنصات المهمة التي باتت بمثابة أسواق بديلة، تتيح للمستقلين تسويق مهاراتهم خارج الحدود المحلية، مع إمكانية تقاضي أجورهم بالدولار عبر حلول مالية رقمية. بهذا، تحوّل التداعي المالي إلى إمكانات مهنية: جيل لبناني جديد وجد في الاقتصاد الرقمي مساحة للحياة والعمل، رغم الانقطاع المستمر للكهرباء، ضعف البنية التحتية، وغياب سياسات رسمية تنظّم هذا القطاع الناشئ".
ماذا عن الحلول المبتكرة لانقطاع الكهرباء والإنترنت؟ يجيب: "يواجه المستقلون في لبنان تحديات يومية غير مسبوقة، كانقطاع الكهرباء لساعات طويلة، خدمات إنترنت متقطعة أو مكلفة للغاية. لكن هذه العقبات لم تمنع الشباب من إيجاد حلول مبتكرة تُمكّنهم من الاستمرار في العمل الرقمي. كما اعتمد كثيرون على ألواح شمسية منزلية صغيرة وبطاريات احتياطية لتأمين مصدر كهرباء مستقر نسبياً، بينما انتقل آخرون إلى استخدام الإنترنت عبر شبكات الهاتف الخلوي (4G و5G) كبديل عن الاتصال الأرضي التقليدي. بعضهم اختار استئجار مقاعد في مساحات عمل مشتركة توفّر كهرباء ثابتة واتصالا سريعا بالإنترنت، ما مكّنهم من مزاولة أعمالهم دون انقطاع".
الدولار يبدل الحال!
من جهة اخرى، ان الميزة الأساسية للعمل الحر في لبنان تكمن في الحصول على دخل بالدولار "فريش"، في بلد يعيش تفككا نقديا حادا منذ نحو 5 سنوات. وبالتالي، ساهم هذا الدخل في تغيير حياة آلاف الشباب: طلاب أصبحوا قادرين على تغطية أقساط الجامعات، موظفون تركوا وظائفهم المحلية غير المربحة، وعائلات كاملة تعتمد على دخل ابن/ة يعمل "أونلاين".
وفي هذا الإطار، تقول ميرا، كاتبة محتوى تتعامل مع شركات خليجية: "أنا اعيل أهلي من عملي في الفريلانس. اذ لا يمكننا الاعتماد على راتب والدي بالليرة بعد ان أصبح لا يساوي أكثر من 180 دولارا".
هل يصبح لبنان "Hub" للفريلانس؟
لا شك ان ظاهرة العمل الحر الرقمي في لبنان، تطرح نقاشا استراتيجيا: هل يمكن أن يصبح هذا القطاع بديلًا مستداما للهجرة الجماعية، وهل تمتلك الدولة القدرة على دعمه بدلًا من تركه يواجه التحديات بمفرده؟
الجواب وفق ما أكده خبراء وأكاديميون من الجامعة اللبنانية والحكمة والعربية لـ "الديار": "ان لبنان يمتلك رأس مال بشري مميز في مجالات البرمجة، التصميم، التسويق الرقمي، والكتابة الإبداعية. من هنا، إذا وفّرت الدولة إنترنت مستقرا وبنية تحتية أساسية، يمكن أن يتحوّل لبنان فعليا إلى مركز إقليمي للفريلانس. المشكلة أن الشباب يعملون اليوم ضد التيار، وليس بدعم رسمي".