ما الدروس التي تقدمها الأزمة اللبنانية للعالم؟

رغم خصوصيتها، تكشف الأزمة اللبنانية في عمقها عن مأزق مسارات اقتصادية وسياسية سلكتها دول أخرى من قبل، وتقدّم عبر تجربتها المريرة دروساً تتجاوز حدودها الجغرافية.

يصف البنك الدولي الانهيار المالي الذي يشهده لبنان منذ عام 2019 بأنه أحد أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. أزمة متعددة الأوجه – مصرفية ونقدية ومالية عامة – أدت إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات غير مسبوقة، وشلل شبه تام في القطاع المصرفي الذي ما زال يفرض قيوداً غير رسمية على أموال المودعين، في ظل فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة بشكل كارثي.

وقد فاقمت الكوارث المتتالية – من جائحة كورونا إلى انفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى الحرب الأخيرة بين إسرائيل و«حزب الله» – هذا الانهيار البنيوي العميق.

لكنّ ما ميّز الأزمة اللبنانية عن أزمات مشابهة في دول مثل اليونان أو قبرص، هو غياب أيّ استجابة سياسية فاعلة في ظل فراغات متكررة في السلطة التنفيذية. فقد تأخر إطلاق الإصلاحات الهيكلية الضرورية، وانهارت الثقة الدولية، ما عطّل تدفق المساعدات المالية الحيوية. وعلى الرغم من أن انتخاب الرئيس جوزيف عون وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة أعادا بعض الأمل في مسار الإصلاح، فإن الملفات الكبرى – ولا سيما إصلاح النظام المصرفي – ما زالت تراوح مكانها.

إخفاق نموذج اقتصادي منفتح بلا توازن

بعد نهاية الحرب الأهلية (1975 – 1990)، تبنى لبنان نموذجاً اقتصادياً ليبرالياً مستوحى من «توافق واشنطن»، يقوم على الخصخصة، واستقطاب الرساميل الأجنبية، والانفتاح التجاري الكامل. غير أن هذا الخيار همّش القطاعات الإنتاجية، وعرّض الصناعة والزراعة المحلية لمنافسة غير متكافئة، خصوصاً بعد توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2002.

ولتعويض العجز التجاري المزمن، اعتمدت الدولة على تدفق الرساميل الخارجية، ما أدى إلى تضخم غير طبيعي في القطاع المالي، وازدهار المضاربات العقارية التي جعلت بيروت واحدة من أغلى المدن في المنطقة. وبذلك، تراجعت الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي، وتحوّل النظام إلى نموذج هشّ يعتمد على الفوائد المرتفعة والمضاربة بدلاً من الإنتاج.

هذا الدرس لا يخص لبنان وحده، بل يتوجه أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي الذي يعاني من آثار العولمة المفرطة ومن تفكك قواعده الصناعية لصالح اقتصادات ناشئة كالصين. ويُظهر المثال اللبناني أهمية العودة إلى نموذج تنمية «ذاتي الارتكاز» يركّز على حاجات الداخل ويمنح الشباب فرصاً حقيقية تحدّ من نزيف الهجرة. اليوم، حتى الدول الكبرى مثل الصين وألمانيا والولايات المتحدة تعيد الاعتبار للطلب الداخلي كرافعة أساسية للنمو، وإن بوسائل مختلفة.

استعادة مفهوم المصلحة العامة

السياسات الاقتصادية المعتمدة عالمياً منذ ثلاثة عقود خدمت أقلية صغيرة على حساب الأغلبية. فالتخفيضات الضريبية قلّصت تمويل الخدمات العامة ووسّعت الفجوات الاجتماعية.

في لبنان، عبّرت انتفاضة 2019 بوضوح عن رغبة الناس في دولة توفر خدمات أساسية في الصحة والتعليم والطاقة وإدارة النفايات. وهذه المطالبة ليست لبنانية فحسب، بل عالمية: فالمجتمعات تحتاج إلى مؤسسات عامة قوية لضمان التماسك الاجتماعي، كما تؤكد أيضاً الحركات الشبابية الأخيرة في المغرب ودول أخرى.

رسالة لبنان إلى العالم

يقول لبنان، من خلال مأساته، إن اقتصاداً يقوم على المضاربة وفقدان الهوية الإنتاجية وعلى عملة مصطنعة القوة لا مستقبل له. ويذكّر بأنّ ازدهار الأمم لا يتحقق إلا بوجود خدمات عامة عادلة، وبأنّ النمو غير المتكافئ لا يدوم.

لكن الرسالة الأعمق التي يوجّهها هذا البلد الصغير هي تلك التي تعبّر عن طاقته على الصمود. فالمجتمع المدني اللبناني، رغم الانهيار، ما زال ينبض بالمبادرات الخلاقة وبشباب يرفض الاستسلام. ويمكن للبنان أن يستعير كلمات الشاعرة أندريه شديد: «أيتها الشبيبة، أصغي إليّ... إنكِ لا تحلمين عبثاً.»

توماس بورشيه – أستاذ الاقتصاد في “باريس سكول أوف بيزنس” ومؤلف كتاب “Le Vacataire” (منشورات ستوك، 2025).