المصدر: Agencies
الثلاثاء 18 تشرين الثاني 2025 11:55:02
في عمق الجبهة الأوكرانية، حيث يختلط صمت الخوف بأزيز الطائرات المسيّرة، تبدو الحرب وكأنها تُدار من مستقبل سبق زمنه، فالمعركة أصبحت ساحة اختبار حقيقية لجيل غير مسبوق من التكنولوجيا العسكرية، وعلى رأسه الطائرات المسيّرة والروبوتات الأرضية.
داخل مركز قيادة سري يبعد عشرات الكيلومترات عن بافلوهراد، يثبت الجنود أنظارهم على الشاشات بينما يتحكمون عن بعد بـ"لينكس"، أحد أحدث الروبوتات الأرضية، ويتابعون تقدّمه لحظة بلحظة عبر كاميرتين تنقلان صورًا لمدينة محطّمة، هي ميرنورغراد، التي كانت تضم قبل الحرب نحو خمسة وأربعين ألف نسمة.
الطرق مكدّسة بالركام والمعادن المحطمة، وأسلاك الكهرباء تتدلى كأطراف مبتورة.. الكلاب الضالة وحدها لا تزال تتجول بحثًا عن حياة تبعثرت، بينما بقي بضع مئات من السكان مختبئين في سراديب الأبنية المنهارة.
"طيور الموت"
من خلال هذا المشهد المدمر تتضح ملامح حرب جديدة تشهدها أوكرانيا، حرب أصبحت مختبرًا مفتوحًا للتجارب القتالية الأكثر تقدمًا في القرن الحادي والعشرين؛ فأسلحة النموذج الأولي تُجرَّب في الميدان لا في المصانع، والذكاء الاصطناعي بات ينزل إلى الخنادق ليشكّل جيلًا مختلفًا تمامًا من القتال.
وعلى رأس هذه التحوّلات، يظهر الاستخدام الكاسح للطائرات المسيّرة بجميع أنواعها، حتى باتت السمة الأبرز للمعارك الدائرة.
وخلال الأشهر الأخيرة، تعرضت مدينتا بوكروفسك وميرنوغراد شبه المحاصرتين لقطع شبه كامل لطريق الإمداد البري.. الطريق صار مكشوفًا بالكامل لمسيّرات الروس، حتى العربات المدرعة الثقيلة ذات الأقفاص الواقية من القنابل لم تعد تجرؤ على المرور، إذ تنقض عليها أسراب من "طيور الموت" كما يسميها الجنود.
ومع غلق الممرات، أصبح على الجنود أن يسيروا أكثر من عشرين كيلومترًا مشيًا بين الحقول والغابات، تحت مراقبة الطائرات المسيّرة، للوصول إلى مناطق خلفية أكثر أمنًا.. وكثير من الجنود لم يتمكنوا من المغادرة منذ أكثر من شهرين.
"عصر الدرون"
في ظروف الحصار هذه، صارت المسيّرات الأرضية والجوية هي شريان الحياة الوحيد.
وللمرة الأولى في تاريخ الحروب، تعتمد مدينتان محاصرتان في بقائهما على طائرات دون طيار تهبط بالذخيرة والغذاء وتعود بالأدوية والاحتياجات الحيوية.
يقول أحد الجنود العائدين من الجبهة بعد إصابة: "طنين المسيّرات لا يتوقف. كلما حاولنا إطلاق طائرة، ينقض علينا العدو بطائراته".
وبلغ التحوّل التكنولوجي درجة جعلت أحد قادة الكتائب، المعروف باسم "باس"، يقول بثقة: "الحرب لن تعود كما كانت أبدًا.. المسيّرات أصبحت السلاح الأكثر فاعلية ضد المشاة والدبابات والمدفعية، وحتى ضد مسيّرات العدو.. مقابل التكلفة، لا يوجد سلاح يضاهيها. نحن فقط في بداية عصر جديد: عصر الدرون".
استثمارات هائلة
تميّز الأوكرانيون منذ بداية الحرب بدمج الابتكارات المدنية في المجال العسكري، عبر مبادرات مدنية واسعة، حوّلوا طائرات تجارية لا يتجاوز سعرها 500 يورو إلى قنابل طائرة، قبل أن تسارع روسيا إلى تعويض الفجوة عبر استثمارات هائلة.
اليوم، امتلأ الجو بأنواع مختلفة من المسيّرات: طائرات انتحارية، وأخرى استطلاعية، وثالثة مخصصة لعمليات الإسقاط، لتصبح الحركة دون أجهزة تشويش مخاطرة مؤكدة.
غير أن التشويش لم يعد فعّالًا كما كان، إذ دخلت المسيّرات الموصولة بالفايبر البصري إلى الميدان، وهي غير قابلة للتشويش تقريبًا.
كما أُجبرت الدبابات على تركيب "أقفاص" ضخمة فوقها لحماية الطاقم، لكن الهجمات المتكررة قادرة على تدميرها رغم ذلك.
ويوضح الميجور أولكسندر زامشا: "خط الجبهة توسّع. لم يعد خطًا بل منطقة مميتة تمتد لعشرين كيلومترًا في كل الاتجاهات".
وعندما يتحدث زامشا عن المستقبل لا يخفي قلقه: "الذكاء الاصطناعي سيجعل الأسلحة أكثر استقلالية. المسيّرات ستحل جزئيًا محل المشاة والمدفعية. نحن نعمل حاليًا على بناء ما نسمّيه جدار المسيّرات، وهو منظومة تدمج الأجهزة الجوية والبحرية والبرية، بين الاستطلاع والإمداد والهجوم".
"فيكتور" الألمانية
وعلى بُعد كيلومترات من بوكروفسك، يعمل فريق من ثلاثة مختصين بالمسيّرات داخل موقع محصّن تحت قيادة جندي يحمل اسم "بوردون".
وحدتهم جزء من الكتيبة الثامنة والثلاثين المنتشرة في الجيب المحاصر.
وبينما يخوض المشاة معارك شوارع عنيفة مع الروس، يطلق هؤلاء طائرات استطلاع ترتفع إلى ألف متر، ترصد حركة القوات الروسية ومستودعات ذخائرهم ومواقع مدفعيتهم، وحتى فرق المسيّرات التي تشارك في الهجمات.
ويُخرج "تورِس"، أحد أفراد الفريق، طائرة "فيكتور" ألمانية الصنع من حقيبة ضخمة، ويبدأ في تركيبها خلال دقائق.
"هذه أفضل ما لدينا"، يقول بوردون.
ويضيف: "تكلفتها نصف مليون يورو، وتصور بدقة لا مثيل لها".
والطائرة قادرة على الإقلاع عموديًا، وتبث صورًا مباشرة تساعد المدفعية على إصابة أهدافها بدقة عالية.
ومع كل إطلاق لطائرة جديدة، يتصاعد القلق من سماع أزيز غريب قد يكون لطائرة انتحارية روسية مرتبطة بسلك ألياف ضوئية، لا يمكن لأجهزة الكشف رصدها.
حرب هجينة
ورغم التقدم التقني، لا تزال كثافة القوات الروسية تُلقي بثقلها.
يقول "رومان"، أحد المقاتلين العائدين من بوكروفسك: نقتل ثلاثة يتسللون إلى المدينة، لكنْ يظهر ثلاثة آخرون فورًا، ثم ثلاثة آخرون.. الأمر يشبه مواجهة الزومبي".
وتابع: "الروس مصممون على انتزاع الجيب المحاصر مهما كان الثمن".
بهذه المعادلة المعقدة، تواصل أوكرانيا خوض حرب هجينة لا تشبه أي صراع حديث: حرب يتحرك فيها الإنسان والآلة جنبًا إلى جنب، بينما تتحول الجبهات إلى ساحات اختبار لحروب الغد، إذ تُصنع أجيال جديدة من الأسلحة كما يُصنع المستقبل ذاته.