مخيمات بيروت تُسلّم السلاح: مقايضة السيادة وحقوق الفلسطينيين

في خطوةٍ أمنيّةٍ–سياسيّةٍ منسّقة، دخلت آليّاتٌ تابعةٌ للجيش اللّبنانيّ إلى مخيّم برج البراجنة في بيروت، تمهيدًا لتسلّم دفعاتٍ من سلاح حركة "فتح" و"منظّمة التّحرير الفلسطينيّة"، في إطار مسارٍ يستهدف "حصر السّلاح بيد الدّولة اللّبنانيّة" وتعزيز الأمن داخل المخيّمات الفلسطينيّة. وتمثّل الخطوة انتقالًا من رمزيّة الإشارات السّابقة إلى تنفيذٍ منظّمٍ وموثّقٍ على الأرض. وفي التفاصيل، سلّمت، اليوم، دفعتان من الأسلحة إلى الجيش اللّبنانيّ: الأولى من مخيّم شاتيلا، والثّانية من مخيّم برج البراجنة. وقال "الأمن الفلسطينيّ في لبنان": "سلّمنا السّلاح الثّقيل من مخيّمات برج البراجنة وشاتيلا ومار إلياس، وانتهينا من تسليمه في ستّة مخيّمات".

وأكّد رئيس لجنة الحوار اللّبنانيّ–الفلسطينيّ رامز دمشقيّة في تصريحٍ صحافيّ، أنّ الجهود المبذولة لنزع السّلاح من المخيّمات يمكن أن "تمهد الطّريق نحو منح اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان مزيدًا من الحقوق القانونيّة". وأوضح أنّ اللّجنة الحكوميّة، بصفتها وساطةً بين اللاجئين والجهات الرّسميّة، تعمل على إعداد مشروع قانونٍ قبل نهاية العام الجاري يحسّن أوضاع نحو 200 ألف لاجئٍ، "من دون منح الجنسيّة"، على أن يعزّز حقوق العمل والتّملّك. وأضاف: "إذا لمس النّاس جدّيّةً في تسليم الأسلحة، ورأوا أنّ الفلسطينيّين هنا جادّون في التّحوّل إلى مجتمعٍ مدنيٍّ بدلًا من مخيّماتٍ مسلّحة، فسيصبح الخطاب أسهل".

من جهته، قال بديع الهابط، النّاطق الإعلاميّ باسم منظّمة التّحرير الفلسطينيّة لـ"المدن" معلّقًا على التّسليم: "ما جرى اليوم هو استكمالٌ للمرحلة الأولى من حصر السّلاح وتسليم السّلاح الثّقيل والمتوسّط في مخيّمات بيروت. وقد استكملت السّلطة الفلسطينيّة، ممثّلةً بمنظّمة التّحرير وقوّات الأمن الوطنيّ وحركة فتح، إجراءات بناء الثّقة؛ إذ أعلنت منظّمة التّحرير أنّها ستسلّم السّلاح الثّقيل للدّولة اللّبنانيّة، على أساس إقرار الحقوق المدنيّة والاجتماعيّة لشعبنا الفلسطينيّ... اليوم نفتح مسارًا جديدًا بين دولة فلسطين والدّولة اللّبنانيّة".

 

بعدٌ رئاسيٌّ ولجانٌ مشتركة

ونقلت وكالة "وفا" عن النّاطق الرّسميّ باسم الرّئاسة نبيل أبي ردينة قوله: "إنّ الجهات الفلسطينيّة المختصّة في لبنان سلّمت، اليوم الجمعة، الدّفعة الثّالثة من سلاح منظّمة التّحرير الفلسطينيّة الموجود في المخيّمات الفلسطينيّة في العاصمة اللّبنانيّة بيروت، وهي: برج البراجنة، ومار إلياس، وشاتيلا، للجيش اللّبنانيّ كعهدةٍ (وديعة)". وأضاف: "جاء ذلك استنادًا إلى البيان الرّئاسيّ الصّادر عن رئيس دولة فلسطين محمود عبّاس، والرّئيس اللّبنانيّ العماد جوزاف عون، في 21 أيّار الماضي".

وأشار أبو ردينة إلى أنّ "الجانبين اتّفقا على تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ لبنانيّة–فلسطينيّة لمتابعة أوضاع المخيّمات في لبنان، والعمل على تحسين الظّروف المعيشيّة والإنسانيّة للاجئين، مع احترام السّيادة اللّبنانيّة والالتزام بقوانينها". وأكّد أنّ "الجانبين جدّدا التزامهما بتوفير الحقوق الإنسانيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للاجئين الفلسطينيّين في لبنان، دون المساس بحقّ العودة أو الهويّة الوطنيّة"، مشدّدًا على "حصر السّلاح بيد الدّولة اللّبنانيّة على كامل أراضيها".

 

تحوّلٌ ميدانيٌّ

وصباح 28 من آب الجاري، انطلق تنفيذٌ واضحٌ على الأرض خارج حدود التّجارب الرّمزيّة السّابقة؛ إذ بدأ الجيش اللّبنانيّ تسلّم دفعاتٍ من الأسلحة من مخيّمات مدينة صور، شملت الرّشيديّة والبصّ والبرج الشّمالي. وشهدت مداخل مواقع التّسليم شاحناتٍ محمّلةً بأسلحةٍ خفيفةٍ ومتوسّطةٍ وقذائف من طراز "B7"، فيما أشارت تقارير رسميّةٌ إلى وجود قذائف وصواريخ أرض–أرضٍ متوسّطة المدى ترفع سقف التّعقيد الأمنيّ. وحضرت قياداتٌ عسكريّةٌ لبنانيّةٌ وممثّلون عن أجهزةٍ فلسطينيّةٍ رسميّة، ما أكسب الإجراء طابعًا مؤسّسيًّا مختلفًا.

ولا يعبّر التّسليم الحاليّ عن توافقٍ فصائليٍّ كامل؛ فقيادة "منظّمة التّحرير" والجهات الرّسميّة الفلسطينيّة تعلن دعمها، وتعدّه تنفيذًا لاتّفاقاتٍ رئاسيّة، فيما تتداول تصريحاتٌ متحفّظةٌ داخل بعض المخيّمات تنكر كونه بدءًا لـ"نزعٍ عامٍّ وقاطع". وهذا التّباين يدلّ إلى أنّ قنوات التّفاوض الرّسميّة ما زالت أضعف من سلطة الفعل الميدانيّ داخل المخيّمات.

والحال، فإنّ مسار تسليم السّلاح في مخيّمات بيروت لا يُختَزَل ببُعده الأمنيّ فحسب، بل يفتح نافذةً سياسيّةً على سؤالٍ أوسع: كيف يمكن تحويل التّفاهمات الظرفيّة إلى عقدٍ مستدامٍ بين الدّولة اللّبنانيّة والوجود الفلسطينيّ على أراضيها؟ فالتّجربة تُظهر أنّ نزع السّلاح لا ينجح بضغطٍ أمنيٍّ منفرد، بل باندماجٍ تدريجيٍّ في منظومة الحقوق والقوانين، بما يعيد ضبط العلاقة على قاعدة "سلطةٍ واحدةٍ وسلاحٍ واحد"، مع صيانة حقّ اللاجئين في الكرامة والعيش الكريم. وإذا التقطت القوى السّياسيّة الفرصة لتحويل هذا المسار إلى رافعةٍ تشريعيّةٍ وإصلاحيّة، فإنّ لبنان يمكن أن يخرج من عبء ملفّ المخيّمات كقنبلةٍ مؤجّلة، ليدخل بهدوءٍ في معادلة دولةٍ قادرةٍ على فرض سيادتها، وتمنح الفلسطينيين في الوقت نفسه ما يرسّخ التزامهم خيار الدّولة والقانون.