مدينةٌ فوق المدينة ... "على السطوح" فصل من الصمود اليومي

في مدينة تتآكلها الأزمات من تحت أقدام سكّانها، ينبض عالم آخر فوق رؤوسهم، لا تراه الحكومة ولا تعترف به الخرائط: إنه عالم السطوح.

فوق هذه المساحات المهملة، يولد مجتمعٌ بديل لا تحكمه قوانين ولا تنظّمه بلديّات. هنا، يبني المقهورون بيوتًا من "تنك"، يحوّل الفقراء الخراب إلى حدائق، ويخلق المحرومون لحظات فرح بين حبال الغسيل وأحواض الزرع ومسابح الأطفال.

إنها بيروت من الأعلى... حيث لا أحد ينظر، لكن كل شيء يحدث. مدينةٌ فوق المدينة، فيها مأوى لمن لا مأوى له، ومتنفّس لمن ضاقت به الجدران، وثورة خضراء ضد الأسمنت، ونبض حياة يخترق الغياب التام للدولة.

بيت على السطح

في أحد أحياء الطريق الجديدة، تقودنا فاطمة (56 عامًا) إلى حيث تعيش منذ أكثر من عقد. تصعد سلّمًا حديديًّا منهكًا، يئنّ تحت أقدامها، وتفتح بابًا حديديًّا صدئًا يفضي إلى خيمة بلاستيكية كبيرة نُصبت على سطح مبنى مهترئ. داخل الخيمة: سرير، مروحة، بعض أدوات المطبخ، وحياة بأكملها.

"بعد انفصالي عن زوجي، لم أعد أحتمل أعباء الإيجار. صعدت إلى هذا السطح، وحوّلته إلى بيت. السماء سقفي. هنا أطبخ وأنام وأقاوم"، تقول لـ "نداء الوطن".

كحال فاطمة، يسكن عشرات في مناطق مثل برج البراجنة وكرم الزيتون والمصيطبة فوق الأسطح، في غرف من "تنك" أو خيم عشوائية. لا شيء قانونيّ في هذا الوجود، لكنه حقيقي ومليء بالنبض. بعض العائلات تعيش هكذا منذ سنوات، بلا حماية، بلا ضمان، لكن أيضًا بلا بدائل.

فسحة للفرح

في الأشرفية، على سطح مبنى من خمس طبقات، تُفاجئنا ضحكات أطفال تخرج من خلف جدران أسمنتية. حين نصعد، نكتشف مسبحًا مطاطيًّا كبيرًا، وعريشة تظلّل المكان. المشهد أقرب إلى منتجع صيفي صغير من سطح مبنى بيروتي.

طوني، الأب وصاحب الفكرة، يخبر "نداء الوطن": أطفالي بحاجة إلى مساحة يفرغون فيها طاقاتهم، لكن لا قدرة لنا على النوادي أو الشاليهات. اشتريت مسبحًا مطاطيًّا وجهّزت السطح. النتيجة؟ مكان آمن ومليء بالفرح. الجيران يطلبون استخدامه، وبعضهم يأتي بحفاضات أو طعام ويقضي ساعات هنا".

سطح كان منسيًّا ومهجورًا، تحوّل إلى نقطة التقاء، ضحك، وراحة. مبادرات فرديّة كهذه، وإن بدت بسيطة، تعيد تعريف العلاقة مع الفضاء العام والخاص في بيروت.

حديقة على الأسمنت

لينا، شابة من حي الزيدانية، حوّلت سطح المبنى الذي تسكنه إلى حديقة مصغّرة. باستخدام "قناني" بلاستيكية وأوانٍ معاد تدويرها، زرعت النعناع والبندورة والفراولة والبصل.

"بدأت كمجرّد تجربة، وانتهت بتغيير علاقتي مع المكان ونفسي. السطح كان رماديًا وكئيبًا، واليوم صار أخضر ومريحًا للنظر والروح"، تقول لينا.

هذه المبادرات لا تتوقف عند الزراعة للاستهلاك الذاتي. بعض الجمعيات البيئية بدأت تدعم السكان في إقامة "حدائق حضرية" فوق السطوح، ما يفتح آفاقًا أمام سكان المدن، خصوصًا في ظلّ شحّ الغذاء وارتفاع الأسعار، لإنتاج جزء من احتياجاتهم.

مساحة للحياة اليومية

في مار مخايل، تروي عبير، ربّة منزل، لـ "نداء الوطن"، كيف أصبح سطح المبنى امتدادًا لحياتها اليومية: "أنشر الغسيل، أجلس مع الجارات، نشرب القهوة، نراقب أولادنا وهم يلعبون. هنا لا قواعد صارمة، لا أناقة زائفة. السطح يعطينا حريتنا".

على هذه السطوح، تطهى الوجبات، تُنظف السجادات، وتُدار جلسات نسائية فيها الثرثرة والدعم المتبادل. السطح يصبح غرفة معيشة بديلة، بعيدًا من الزحام، الكهرباء المقطوعة، والضغوط المنزلية.

فضاء بديل في غياب الدولة

قصص السطوح في بيروت ليست مجرّد محاولات يائسة للهروب من القاع، بل تشكّل مقاومة مدنية ناعمة ضد انهيار الدولة وتفكّك البنى التحتية. السطح يصبح حلًّا لمشكلة السكن، وسيلة للترفيه، ومنصّة للزراعة، بل ومتنفسًّا إنسانيًّا في مدينة تُحاصر أهلها من كلّ الجهات.

هذه الحياة "الفوقية" لا تُنظّمها البلديّات، ولا ترصدها المخطّطات الحضرية، ولا تعترف بها الدولة، لكنّها تزداد كلّ يوم. إنّها بيروت البديلة، غير الرسمية، حيث الإبداع والفقر يتعانقان لإنتاج واقع قابل للعيش.

بيروت... من فوق

من تحت، تبدو بيروت مدينة منهكة، ضيّقة، مكتظّة، مأزومة. من فوق، ترسم المدينة وجهًا آخر: عفويًّا، صلبًا، مليئًا بالحياة رغم هشاشته. السطوح تكشف بيروت الحقيقية، التي لا تصدّرها الإعلانات ولا تعنيها الخطط الاستراتيجية.

فوق هذه المدينة، تُكتب فصول من صمودها اليومي: امرأة تصنع بيتًا من لا شيء، أب يصنع لابنه مسبحًا على سطح ساخن، شابة تزرع النعناع فوق الخراب.

هؤلاء لا يطلبون المستحيل، بل فقط مساحة تنفّس... ومساحة كرامة.