مشروع الرقم الوطني الموحد: التسجيل المدني للأحوال الشخصية

بين "فرح" و"فرج" فارق صغير لكن تأثيره كبير على حياة الفتاة فرح، و"غلطة المختار" بتدوين الإسم ما هي إلا عينة صغيرة عن مساوئ نظام التسجيل في دوائر الأحوال الشخصية اليدوي المعتمد في لبنان، والتي تبدأ بـ"إحياء أموات" على لوائح الشطب الانتخابية، ولا تنتهي بضحايا الاعتماد على المبادرة الفردية للتسجيل المعروفين بـ"مكتومي القيد". وهو غيض من فيض الأسباب التي دفعت جمعية رواد الحقوق لإطلاق حملة لإقرار مشروع قانون "التسجيل المدني للأحوال الشخصية"، الذي أعدته مع خبراء، وقدمه النائب أسامة سعد إلى المجلس النيابي، ليحل محل قانون التسجيل الحالي، طارحاً في حال تطبيقه، ولأول مرة في لبنان، رقماً وطنياً فردياً موحداً للمواطن في كل معاملاته.

آلية تسجيل ولى زمنها
وتنظم آلية تسجيل وقوعات الأحوال الشخصية منظومة قانونية تعود لبدايات ومنتصف القرن الماضي تفتقد لمواكبة العصر، كما تتعدد الجهات الممسكة بالقيود في لبنان لتتعدد معها السجلات والثغرات، بل والمآسي الإنسانية. ولا تشمل كل الأفراد المتواجدين على الأراضي اللبنانية، كمكتومي القيد وعديمي الجنسية والأجانب غير النظاميين، ما يفقد الدولة سيادتها وقدرتها على إحصاء جميع قاطنيها وتدبير سجلاتهم، كمدخل أساسي للتخطيط للمستقبل ومقاربة ملفات اللجوء وغيرها.

الانهيار: مشكلة بالزائد!
غياب المكننة والعصرنة وعدم شمولية آلية تنظيم الوقوعات في لبنان، يضاف إليها خطر تلف البيانات واهترائها، إلا أنّ الخطر الأكبر اليوم هو بانقضاء مهل التسجيل، سيما لدى الولادات، المرجح للارتفاع على وقع الانهيار الاقتصادي.

فتشعب إجراءات تسجيل الوقوعات، والتي قد تبدأ بالمختار ولا تنتهي بمأمور النفوس، مع ما يعنيه ذلك من رحلة بحث عن الطوابع والأوراق والكهرباء في السرايات، والبحث عن موظفين إداريين "حاضرين" خلال الدوام لإجراء المعاملات، تكبد المواطن المزيد من الوقت والجهد والمال، و"عالفاضي" أحياناً.

وإذا كان الجهل بمهل التسجيل سبباً رئيسياً في حرمان مواطنين لبنانيين "أباً عن جد" من الهوية جراء كتم قيدهم، فإن تهرب المواطنين اليوم من التكاليف الباهظة للتسجيل عن عمد، هو عائق مستجد لتسجيل الولادات الجديدة، لا سيما لدى الطبقات الأشد فقراً في لبنان، وهو ما قد يرفع نسبة مكتومي القيد بشكل غير مسبوق.

ثورة على مستوى الإصلاحات
ويعتمد القانون المطروح التسجيل المؤسساتي من خلال مكننة المعاملات (تسجل المراكز الصحية وقوعات الولادات، والمؤسسات الروحية وقوعات الزيجات، وللزواج المدني آلية تسجيله الممأسسة وكذلك الطلاق والوفيات..)، لتتحرر المعاملة من المبادرة الفردية، وتنجز ضمن المهل، تفادياً لمأساة كتمان القيد، وغيرها من مآسي نظام التسجيل الحالي، وكل ذلك بـ"كبسة زر".

ويأتي مشروع القانون المطروح ليكرس نظاماً آلياً وتلقائياً وممكنناً، يعطي اللبنانيين رقماً وطنياً واحداً لكل معاملاتهم، فتوثق فيه كافة المعلومات ووقوعات الأحوال الشخصية والقرارات الإدارية والقضائية المتعلقة بهذا الفرد، ليوفر رحلة مضنية من جمع الأوراق اللازمة، من إخراج قيد، وثيقة ولادة، شهادة رسمية وجواز سفر، من دائرة رسمية إلى دائرة أخرى، فتتقلص المصاريف على المواطن والدولة في آن.

وهو قانون واحد يشمل كل أنواع الوقوعات الحاصلة على الأراضي اللبنانية، من زواج وولادة وانحلال زواج. ما يعزز سيادة الدولة على أرضها ممكّناً إياها من إحصاء وقوعات غير اللبنانيين، عبر إعطائهم أرقاماً تعريفية.

أكثر من ذلك، يعطي القانون المرأة اللبنانية حقها بقيد فردي، كمواطنة مستقلة بذاتها، على عكس آلية التسجيل الحالية، التي تعاملها على أنها شخصية تابعة، يتنقل قيدها بين قيد أبيها وزوجها ثم أبيها في حال طلاقها. كما يحمي القانون الجديد الأطفال من تسميتهم بأسماء مجحفة، عبر تحويل الملف للقضاء للحكم فيه.

في السياق، تقول مسؤولة المناصرة في "رواد الحقوق" برنا حبيب لـ"المدن" أن مشروع القانون بمثابة "ثورة" على مستوى إصلاحات نظام تسجيل الأحوال الشخصية، سواء على مستوى تفادي أخطاء تؤدي إلى مآس إنسانية تحرم إنسان حقه بالهوية، أو لناحية أهميته كقاعدة بيانات وطنية تمكّن الدولة معرفة القاطنين على أراضيها.

فوضى على مستوى التشريع
القوانين اللبنانية بجزء كبير منها لم تعد تُجاري العصر، ومن بينها القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، فـ"الفوضى التشريعية" هي أبرز الصعوبات التي يواجهها أي باحث قانوني. إذ لمعرفة الحكم المتعلق بحالة معينة يكون من الواجب أحياناً الركون إلى عدة نصوص قانونية، وبات الوضع يتطلب ورشة تشريعية كبرى داخل مجلس النواب. وإن تعمقنا في قوانين الأحوال الشخصية اللبنانية نرى أنه من غير المعقول أو المقبول في العام 2022 استمرار الاعتداد بالقيود الورقية التي يمكن أن تعتريها الأخطاء المادية كما خطر التلف، ومن غير الجائز أن تتأخر معاملة أي مواطن. كما أنه من غير المنطقي أن يدفع الطفل اللبناني ضريبة إهمال ذويه بتسجيل ولادته فيصبح اللجوء إلى المحاكم واجباً، وهناك فئة لا بد من الالتفات إليها إنسانياً لمعالجة أوضاعها القانونية وهي فئة "مكتومي القيد".

هكذا يشخّص المحامي جاد طعمة في حديثه لـ"المدن"، غيضاً من فيض مشاكل نظام الأحوال الشخصية، لافتاً إلى أن المشكلة تشريعية أساساً في لبنان، وتعود جذورها للإهمال وسوء التنظيم، كما لقلة خبرة نواب الأمة في أصول التشريع وإجتراح الحلول إنطلاقاً من الواقع العملي.

وفي معرض تعليقه على مشروع قانون التسجيل المدني للأحوال الشخصية، يؤكد على أن "كل قانون يدفع باتجاه تحريك عجلة التشريع وتطوير القوانين هو أمر ملح، لا سيما إن تضمن مواداً تكّرس مكننة ومأسسة إدارات الدولة معتمداً على أنظمة الربط الإلكتروني للإدارات، ما يدفع باتجاه تسهيل عمل الإدارة وتسهيل المعاملات"، فهذا من شأنه جعل لبنان من الدول التي تواكب التطور الإلكتروني، ما يتيح إمكانية استحصال المواطنين على الوثائق الرسمية ودفع رسومها عبر خدمات الأونلاين.

ويلفت طعمه إلى أن تنظيم قاعدة بيانات مركزية للأحوال الشخصية على مستوى كل لبنان يتطلب رصد ميزانية ضخمة. صحيح أننا نواجه حالة الدولة العاجزة مالياً والتي باتت بحكم المُفلسة، لكن من الممكن تأمين دعم خارجي لهكذا مشروع من قبل جهات مانحة خاصة، وسبق للحكومة اللبنانية أن وعدت باعتماد "الحوكمة الرقمية في الإدارات العامة" وبذلت جهداً في هذا المجال عبر وزارة التنمية الإدارية.

من جهة ثانية، يثني طعمه على "اللفتة الانسانية" التي تطرق إليها مقترح القانون الجديد. فهناك واقع إنساني صعب تعاني منه فئة مكتومي القيد، التي "لا بدّ من إنصافها في مجلس النواب، عملاً بالمبادئ التي ترعى قواعد حقوق الانسان وتحفظ الكرامة الانسانية".

قيود فردية وأرقام وطنية ودعوى ضد الدولة
وفيما تطبيق القانون الحالي عبر المديرية العامة للأحوال الشخصية، يوّثق الولادات ضمن قيود فردية مناطقية ومذهبية، يأتي مشروع القانون ليقترح توثيق الولادات الجديدة ضمن قيود مركزية متحررة من ذكر المكان والمذهب.

هنا يلفت طعمه إلى أن الواقع القائم دفع بأكثر من 50 شخصية لبنانية للتقدم بدعوى أمام محكمة الأحوال الشخصية في بيروت بوجه الدولة اللبنانية. وقد كان له شرف إعداد هذه الدعوى وتوقيع استحضارها، موضحاً أنه بناء للدراسة التي جرى إعدادها من فريق قانوني وناشطين بالمجتمع المدني، وجدنا أنه "سنداً لأحكام القوانين المرعية الإجراء، لا شيء يخول الإدارة وضع قيد الطفل ضمن مذهب الوالدين".

والنظام المطبق حالياً يركن إلى تسجيل القيود العائلية ضمن أرقام سجلات القيد الواحدة المتوارثة عائليا لجهة الأب، مما لا يعطي الفرد هوية قانونية فردية خاصة، على عكس مشروع القانون المقترح الذي يُتيح اعتماد بيان فردي لكل فرد بغض النظر عن جنسه. وهذا الرقم التعريفي الخاص، يرافق الفرد منذ الولادة حتى الوفاة، ويُستخدم في كل المعاملات الرسمية من دون تشتت بين أرقام الهوية وإخراج القيد وجواز السفر.

هنا، يشير طعمة إلى أن لبنان أصدر عام 2012 القانون 241 لاعتماد الرقم الوطني الموحد كوسيلة تعريف واحدة، ووافقت وزارات الصحة والداخلية والتنمية الإدارية والمالية على اعتماد رقم بطاقة الهوية كرقم وطني. وعلى الرغم من صدور مرسوم تطبيقي لهذا القانون في العام 2017، إلا أنه لم يطبق بشكل ملموس وفعّال حتى يومنا هذا.

النية موجودة؟
ومنذ أيام فقط، تم الاحتفاء بتحديث "الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2020-2030" في السراي الحكومي، استراتيجية، لا تكتمل عناصرها من دون آلية ممكننة لتسجيل الأحوال الشخصية في لبنان.

من جهتها، تصف آية في حديثها لـ"المدن"، وهي إحدى مكتومات القيد، معنى أن تكون ضحية آلية التسجيل القانون الحالي، "بالنسبة للدولة لست موجودة، ولو كان مشروع القانون المطروح موجوداً يوم ولدت، لكان أنقذني وأنقذ الكثيرين". متمنية أن تكون النية بالتحول الرقمي "موجودة" لدى المجلس النيابي، فيبصر هذا القانون النور!