مقدمة لـ"قطع الرؤوس" الكبيرة.. كيف أطاحت إسرائيل بالرجل الثاني في "حزب الله"؟

قالت مصادر أمنية وعسكرية لبنانية لـ"إرم نيوز" إن اغتيال هيثم علي الطبطبائي، الذي يُعد عمليا رئيس أركان "حزب الله" والرجل الثاني في هرم القيادة العسكرية، ليس مجرد ضربة نوعية في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، بل إشارة افتتاحية لمرحلة جديدة من المواجهة، قاعدتها الأساسية هي استكمال "قطع الرؤوس" في حزب الله والحرس الثوري الإيراني معا، لمنع ترميم القوة التي فقدها الحزب في حرب 2024. 

ضربة بساعة استخبارية واحدة

بحسب المعلومات التي حصل عليها "إرم نيوز" من مصادر لبنانية متقاطعة، فإن الطبطبائي كان يقيم في شقة سرية في شارع العريض بحارة حريك، بعيدا عن الأماكن المعروفة لقيادات الحزب. ورغم ذلك، تمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من رصد وجوده في المبنى عصر الأحد، لتطلق خلال أقل من ساعة عملية حملت اسم "بلاك فرايداي"، استهدفت بدقة الطابقين الرابع والخامس من بناية سكنية مكتظة بالسكان.

مصدر عسكري لبناني يصف لـ"إرم نيوز" ما جرى بأنه "اغتيال جراحي من مسافة بعيدة"، ويشير إلى أن الطائرات المسيرة الإسرائيلية حلّقت فوق الضاحية على ارتفاع منخفض لساعات، بينما أظهرت لقطات منشورة لاحقا أن الصاروخ الذي استخدم في العملية ترك فجوة عميقة في واجهة المبنى دون تدميره بالكامل، "في محاولة لتقليص حجم الضحايا الجانبيين"، مع أن الحصيلة الرسمية تحدثت عن خمسة قتلى وعشرات الجرحى.

وتقول المصادر إن اختيار الضاحية – للمرة الأولى منذ أشهر – لم يكن صدفة؛ فـ"تل أبيب أرادت أن تذكّر الحزب بأنها قادرة على ضرب رأسه في معقله الأكثر تحصينا، وأن اتفاق وقف إطلاق النار ليس مظلة تحمي قياداته، بل ترتيبات مرحلية يمكن خرقها متى اعتبرت إسرائيل أن الحزب يتجاوز خطوطها الحمراء".

 من تبقى في الصف الأول والثاني؟

مصادر سياسية وأمنية لبنانية ترى أن اغتيال الطبطبائي يأتي تتويجا لمسار بدأ منذ عام، مع تصفية عدد كبير من قادة "قوة الرضوان"، ثم قادة وحدات الصواريخ والطائرات المسيرة، مرورا بقادة جبهات الجنوب والقطاع الغربي، "إلى أن وصل السيف اليوم إلى عنق من يمسك بخيوط الجبهة الجنوبية كلها، من صيدا إلى الحدود".

في المقابل، تشير تسريبات إسرائيلية إلى أن "بنك الأهداف" الإسرائيلي لا يقتصر على من تبقى من قادة حزب الله داخل لبنان، بل يشمل أيضا قيادات وحدات "نصر" و"عزيز" و"بدر" المسؤولة عن إعادة تنظيم الخطوط الدفاعية شمال الليطاني، باعتبارها البديل عن "قوة رضوان" التي تلقت ضربة قاسية.

ويشمل بنك الأهداف أيضا ضباطا مكلفين بملف الصواريخ الدقيقة والمسيرات بعيدة المدى، والذين يُنظر إليهم في تل أبيب باعتبارهم "مراكز ثقل" في قدرة الحزب على استعادة تهديد العمق الإسرائيلي، بعد تدمير جزء كبير من مخازن السلاح والبنى التحتية خلال العام الماضي.

وتضم لائحة الاغتيالات الإسرائيلية، المستشارين الإيرانيين، خاصة المرتبطين بفيلق القدس في سوريا ولبنان، والذين يعتبرهم الإسرائيليون "المهندسين الفعليين" لعملية إعادة بناء قدرات الحزب، وهو ما يفسر – بحسب المصادر – تزايد الحديث في مراكز أبحاث غربية عن "حرب ظل" سيبرانية وعمليات استهداف مركزة لشبكات الحرس الثوري في المنطقة.

مصدر أمني لبناني يتحدث عن "مناخ عام داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يميل إلى مواصلة سياسة الاغتيالات بوتيرة أعلى، ما لم يؤدِّ ذلك إلى حرب شاملة لا تريدها واشنطن"، مشيرا إلى تصريحات لمسؤولين إسرائيليين محليين في الشمال تدعو صراحة إلى "مواصلة عملية (واحد+واحد) حتى آخر قائد قادر على إدارة المعركة في حزب الله". 

كيف سقط "أبو علي" الطبطبائي؟

رغم التعتيم الرسمي، ترجّح مصادر عسكرية لبنانية أن اغتيال الطبطبائي اعتمد على مزيج من المصادر البشرية والتقنيات المتقدمة. فالرجل معروف داخل الحزب بحذره الشديد وتبديله المستمر لأماكن الإقامة ووسائل الاتصال، كما أن الولايات المتحدة رصدت مكافأة بخمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه منذ سنوات؛ ما يعزز فرضية وجود "عشرات العيون" التي تلاحق تحركاته في الداخل والخارج.

في الوقت نفسه، تكشف دراسات وتقارير غربية عن توسع كبير في استخدام إسرائيل لأنظمة الاستهداف المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، عبر وحدات خاصة داخل شعبة الاستخبارات مهمتها تحليل كميات هائلة من الصور والاتصالات والبيانات الميدانية، واقتراح أهداف جاهزة لسلاح الجو، وهي أنظمة استُخدمت بكثافة في غزة، ثم نُقلت خبرتها إلى الجبهة اللبنانية.

المصدر الأمني اللبناني يقول لـ"إرم نيوز" إن ما جرى في الضاحية "يحمل بصمات هذا النمط من العمل"، موضحا: "نحن أمام بيئة حضرية مكتظة، تُحلق فوقها طائرات استطلاع إسرائيلية على مدار الساعة. الخوارزميات قادرة على التقاط التغير في أنماط الحركة والدخول والخروج من مبنى معين، ومع أي معلومة بشرية إضافية -حتى لو كانت صغيرة - يتحول الهدف إلى أولوية قصوى خلال دقائق".

في المقابل، يلفت المصدر إلى أن حزب الله حاول - وما زال - مواجهة هذا التطور عبر منع استخدام الهواتف الذكية داخل الدوائر الحساسة، والعودة إلى الهواتف السلكية والرسل البشريين، وتغيير أماكن المبيت بشكل شبه يومي، لكن "مع مراكمة بنك أهداف على مدى سنوات، يصبح كل ظهور علني أو شبه علني لقائد بهذا الحجم مخاطرة كبرى".

بداية موجة اغتيالات واسعة؟

حتى الآن، تشير تقديرات مصادر سياسية لبنانية إلى أن حزب الله سيتجه إلى رد محسوب زمنيا ومكانيا، لا يؤدي إلى انهيار كامل لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تصر واشنطن على إبقائه قائما، ربطا بملفات غزة والملف النووي الإيراني وترتيبات أوسع في المنطقة.

لكن هذه المصادر تحذر في الوقت نفسه من أن استمرار إسرائيل في استغلال "هامش الغموض" في الاتفاق لتنفيذ اغتيالات أعلى سلم القيادة، سواء داخل لبنان أو خارجه، قد يدفع الحزب - بل وطهران نفسها- إلى تغيير قواعد اللعبة على نحو يصعب ضبطه، خاصة إذا ما تكررت ضربات من مستوى اغتيال الطبطبائي أو قيادات بارزة في الحرس الثوري. 

وبينما تتحدث المصادر المقربة من الأمن الإسرائيلي عن "خطة متدحرجة لتحجيم حزب الله ومنع استنزاف الجيش الإسرائيلي"، ترى مصادر لبنانية أن الأيام المقبلة ستكون اختبارا حقيقيا لمدى قدرة الحزب على "ابتلاع" اغتيال الرجل الذي تولى، خلال العام الماضي، مهمة إعادة بناء ما تحطم من قوته العسكرية دون أن ينفجر كل شيء دفعة واحدة.