مناورة الجيش الآخر في جمهورية الحاجب

مشهدان هذا الأسبوع ألقيا الضوء على العطب الكبير في السياسة اللبنانية، وفُتات الدولة فيها: المناورة العسكرية الأخيرة لـ"حزب الله" والمشاركة اللبنانية في القمة العربية.

المشهد الأول والأهم هو المناورة. لماذا يُعلن "حزب الله" مناورة عسكرية للإعلام الدولي والإقليمي والمحلي؟ هل كان الهدف بعث رسائل الى الدولة العبرية في مرحلة تبادل التهديدات وسط ارتفاع لوتيرة الاستهدافات الإسرائيلية لمواقع إيران وحلفائها في الداخل السوري أو اقتحامات أو التهديدات للمسجد الأقصى والقدس المحتلة؟ أم هل لجأ التنظيم الى هذه المناورة من أجل التعويض عن عدم الرد على مسيرة الأعلام المتطرفة في المسجد الأقصى والمواجهة في قطاع غزة؟ لو صح ذلك، ستكون هذه رسالة تهديد للتعويض عمّا فات ولإبقاء معادلة الردع قائمة.

لكن في الوقت ذاته، باتت المناورات والاستعراضات العسكرية جزءاً من صناعة الهالة الإعلامية والسياسية للتنظيم، وصار من الصعب التفريق بين رسائل الداخل والخارج، إذ أن الثابت هنا هو الصورة التي يعكسها هذا المشهد، بتناقضاتها الصارخة. من الصعب تفادي معنى أن يُشاهد هذا الكم غير البسيط من الصحافيين، قوة عسكرية تتعاظم هي وأدواتها وآلاتها، فيما تتعرض الدولة "المضيفة" لاهتراء في كل مؤسساتها والقدرة الشرائية للناس فيها تتقلّص إلى مستوى غير مسبوق.

قد يكون الهدف الأساس من المناورة توجيه رسالة الى إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما في الخارج، لكن هؤلاء غير معنيين سوى بالسلاح الجديد أو الإشارات الضمنية المُمررة عبر الإعلام. الصورة الثانية التي تعنينا بشكل مباشر اليوم، مختلفة جذرياً. في الداخل اللبناني، المنظار هو في قياس قوة الحزب نسبة لقدرات الدولة اللبنانية وجيشها وقواها الأمنية. بالنسبة للخارج، قد تكون قوة التنظيم ازدادت بنسبة عشرة بالمئة أو ربما التقدم سالب لو قورن بما حصّله الخصوم تقنياً وبالقدرة والتحالفات العسكرية وغير ذلك. إلا أن هذا الضعف يزيد من خلل المشهد في الداخل حيث تقلّصت الدولة وقدرتها أضعافاً مضاعفة.

بات الحديث عن تولي الجيش الدفاع عن حدودنا في مواجهة إسرائيل أو أي تهديدات خارجية، غير قابل للصرف على أرض الواقع لأسباب عديدة، بدءاً من الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة وقطر في تأمين الحاجات الأساسية، وانتهاء في أن هذه المؤسسة كغيرها باتت في غرفة العناية الفائقة، والوقت لم يعد لصالحها. هدف من يُساعد المؤسسات العسكرية والأمنية اليوم، ابقائها على قيد الحياة وتجاوز الظروف الحالية، لكن هذا لا ينفي أن الوقت بات عاملاً غير مساعد في مثل هذه الظروف. هل بإمكانها جذب المزيد من المجندين والضباط الأكفاء، في وقت باتت الهجرة الشغل الشاغل لكثيرين؟ بالتأكيد لا. والجيش هنا انعكاس لمجتمعه الذي يُعاني مادياً ومعنوياً واقتصادياً، على عكس "حزب الله" الذي زادت قدراته المادية مع انخفاض سعر الصرف، وارتفعت قدرته على جذب دماء جديدة. ذلك جسد متصل بالبنية اللبنانية، وهذا خارجها، لا بل يقتات على ضعفها.

باختصار، المناورة هي أيضاً تكبير لحجم مأزق مشروع الدولة اللبنانيةـ وإظهار لمسار معاكس تتقلص فيه مساحتها بشكل غير قابل للمعالجة.

المشهد الثاني هو أيضاً مرتبط بهذا الواقع. كانت لمشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في قمة الجامعة العربية، انعكاسات محلية لبنانية، في مقابل مشاركة هزيلة للبنان الذي ما زال بلا رئيس ولا حكومة، وبلا أثر أو معنى سياسي. حتى في الاعلام اللبناني، كان حضور الأسد أكبر من المشاركة اللبنانية في القمة، والتي كانت مثار استخفاف وانتقاد نتيجة سلوكيات وزير الخارجية اللبناني فيها عبد الله بو حبيب.

علينا كلبنانيين أن نطرح أسئلة على أنفسنا، من قبيل أي سياسة خارجية بإمكاننا أن نصنع دون أي سيطرة على قرار الحرب والسلم؟ بإمكان الأمين العام لـ"حزب الله" اليوم أن يُطيح بعلاقات لبنان مع أي دولة عبر خطاب واحد له، أو مشاركة في دعم عسكري أو حتى مناورة عسكرية، وغير ذلك.

هزالة المشاركة والحضور والفشل في صوغ علاقات خارجية مفيدة للبلد في مثل هذه المرحلة الحساسة، ليس إلا دليلاً اضافياً على أن هذا العطب الكبير في مسارنا ينمو بالسالب، وأن تخيّل مستقبل صحي بوجوده مجرد هذيان. ذلك أن الدولة ومؤسساتها وأركانها باتوا أشبه بخفير أو حاجب تقتصر وظيفته على تسيير شؤون واتمام مهمات صغيرة لا يُريد أصحاب القرار الحقيقيين توليها.