المصدر: نداء الوطن
الكاتب: ألين الحاج
الخميس 12 حزيران 2025 07:56:22
لم يتخيّل يوماً أن تصدمه شاشة هاتف. هو ستينيّ، قارئ نهم، عاشق للفنّ والفكر، ظنّ أنه اختبر هذا العالم بكلّ وجوهه سواء في لبنان أو خلال إقاماته المتعدّدة في الخارج. لكن لحظة دخوله إلى تطبيق "تيك توك" بدت وكأنها عبور إلى كوكب لا يشبهه. كوكبٌ صاخب، تتصدّره وجوه وأجساد تتراقص بلا هدف، كلمات تهوي بلا معنى، حتى الإباحيّة لم تأتِ متخفّية، بل انفجرت في وجهه بلا استئذان، بلا سياق. مشاهد تتكرّر كما لو أنّ الزمن عالق في حلقة استهلاك لا تنتهي.
الرجل لا يخشى الحداثة، ولا يعيش على أنقاض الماضي، لكنه لم يتوقّع أن يكون التغيير بهذا العنف، ولا أن تنقلب المعايير بهذه السرعة. في زمنه، كان خدش الحياء العام استثناءً يُهمَس عنه على استحياء، ويُواجَه بالرفض أو التجاهل. أما اليوم، فبات يُعرَض على الملأ، ويُسوّق كترفيه، وأصبح الابتذال وسيلة صريحة للربح و "الترند".
وفي شبابه أيضاً، الشهرة كانت رحلة طويلة تبدأ بالموهبة، تمرّ بالتعب، وتنضج مع الزمن. أما اليوم، فكلّ شيء تغيّر، الشهرة تُمنَح بتمريرة إصبع، وتُقاس بعدد المشاهدات الرقميّة لا بجودة الفكرة أو صدق التعبير.
عند هذا الحدّ، طرح المخضرم سؤالاً جدياً، هل هذه الصورة الحقيقيّة للجيل اللبنانيّ الجديد، أم هي صورة المنصّة التي قرّرت أن تروّج لِما هو أكثر ضجيجاً وأقلّ عمقاً؟ في الواقع، سؤاله مفصليّ، ويحمل في طيّاته شقَّين متداخلَين: الأول تقني، يتعلّق في بُنية "تيك توك" وخوارزميّاته، والثاني نفسي... ومن الأول نبدأ.
أولاً: تيك توك بين الصين والعالم العربي
يكشف خبير التطوير التكنولوجي هشام الناطور، أنّ ما يُعرف بتطبيق "تيك توك" ليس منصّة واحدة كما يعتقد كثيرون، بل هناك نسختان منفصلتان تماماً: الأولى هي النسخة الصينية المعروفة باسم "دوين" (Douyin)، والثانية هي النسخة الدولية المتاحة في الشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة.
ويشرح الناطور في حديث إلى "نداء الوطن"، الفروقات الجوهرية بين المنصّتَين، وكيف يلعب كلّ منهما أدواراً متناقضة تبعاً للجغرافيا والسياسات المحليّة، مشيراً إلى أنّ تطبيق "تيك توك" المتاح في الشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة، يختلف تماماً عن النسخة الصينية، رغم أنهما يُداران من الشركة نفسها "بايت دانس" (Bytedance).
ويضيف أنّ "دوين" يعمل ضمن منظومة تُعرف باسم الجدار الناري العظيم (Great Firewall)، وهو نظام رقابي ضخم يمنع تداول أي محتوى ينتقد الحكومة الصينية أو يتناول قضايا حسّاسة مثل قضية التيبت، حقوق الإنسان، أو أي محتوى يتعارض مع توجهات "الحزب الشيوعي الصيني". كما يُشجّع على نشر محتوى تعليمي، ثقافي، وتجاري يتماشى مع الخطاب الرسمي للدولة.
يؤكد الناطور أيضاً، أن منصّة "دوين" تمنع تماماً عرض أي محتوى يُعتبر غير لائق، وذلك من خلال خوارزميات متقدّمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، إذا ظهر شخص يدخّن أثناء البث المباشر، يُوقف البث فوراً وتُفرض عليه قيود. كما يُزال أي محتوى يخالف الآداب العامة بشكل مباشر. وتقوم المنصّة تلقائياً بتعديل المحتوى الحسّاس، كإضافة ملابس افتراضية للنساء اللواتي يظهرن بملابس سباحة أو شبه عاريات. وتُحظَر تماماً أي أشكال من الترفيه تتعارض مع القيم الأخلاقية، بخلاف ما هو شائع في بعض الدول الأخرى. وبحسب الخبير، فإنّ كل هذه الإجراءات تُعزَّز بفرق رقابية بشرية تعمل بشكل مباشر إلى جانب الخوارزميات، ما يضمن رقابة أكثر دقّة وفعالية.
في المقابل، تعتمد منصة "تيك توك" على الخوارزميات فقط من دون تدخُّل بشَريّ، ما يفتح المجال أحياناً لتجاوز القيود وظهور محتويات أكثر جرأة وخروجاً عن المعايير الأخلاقية.
ويتابع الناطور شرحه حول الجانب التقني بالقول: "في "دوين"، لا تتعدى مدّة الفيديوات 40 ثانية، بهدف تقليص مساحة الانحراف. كما تُلزم الصين المستخدمين بربط حساباتهم ببطاقات هوية وطنية. بينما في النسخة العالمية، يسمح "تيك توك" بمقاطع تصل إلى 10 دقائق، ويدفع المستخدمين للتركيز على "الترندات" والمحتويات التي غالباً ما تفتقر إلى العمق أو الفائدة، إضافة إلى عدم التحقّق من أعمار المستخدمين التي يمكن أن تكون وهميّة".
بالتالي، يؤكد الناطور، أنّ ما لا توفّره المنصّة بنسختها الصينية، يتيحه "تيك توك" الذي، على حدّ قوله، يتمتّع بمساحة أوسع نسبياً من الحرية، حيث يسمح بمحتوى شبه عارٍ ورقص إيحائي، ويشجّع على انتشار هذا المحتوى عبر "هاشتاغات" مخصّصة. ورغم إشارته إلى وجود خوارزميات تحذف أو تقيّد المحتوى المخالف بشكل صريح، مثل التعرّي الكامل أو التحرّش الجنسي أو استغلال القُصّر، إلا أنه يرى تلك القيود غير صارمة بما فيه الكفاية، ما يتيح انتشار هذا النوع من المحتوى بشكل واسع.
وعند الحديث عن "تيك توك" في منطقتنا، يحدّد الخبير ثلاثة أهداف رئيسيّة تحرّك هذا التطبيق وتوجّه سياساته بشكل مقلق. الهدف الأول يتعلّق بتبييض الأموال، حيث تُستخدم المنصّة كأداة لنقل وغسيل أموال بطرق غير قانونية. الهدف الثاني يرتبط باضطراب نفسي يصيب بعض الداعمين الذين ينفقون مبالغ طائلة لدعم أفراد معيّنين على المنصة بشكل مفرط وغير منطقي. أما الهدف الثالث، فهو ذو طبيعة جنسيّة بحتة، حيث تُدفع مبالغ مالية كبيرة لشبان وفتيات لتحقيق أغراض غير أخلاقية، وهو أمر موثّق في تقارير متعددة، كما يكشف الناطور.
مع ذلك، لا يُنكر وجود محتوى حسّاس يتطلب تصريحاً خاصاً للمشاهدة، مثل المحتوى الذي يتضمّن مشاهد عنف أو دماء، حيث يتم تحذير المشاهدين من خلال خاصية "مشاهدة على مسؤوليتك" (watch anyway)، لتنبيههم بأنّ الفيديو يتضمّن مواد قد تكون مؤذية نفسياً أو مزعجة.
في لبنان: تطبيع الانحدار
وعن لبنان تحديداً، يؤكّد خبير التطوير التكنولوجي هشام الناطور، أن "تيك توك" ليس مجرّد منصّة ترفيهية عابرة، بل تحوّل إلى ملاذ فوضوي للربح السهل وسط أزمة اقتصادية خانقة عصفت بالبلد منذ عام 2019. ويرى أنّ التطبيق اخترق المجتمع اللبناني من أضعف نقاطه: الفقر، والبطالة، وانعدام الأفق لدى فئة الشباب، فبات كثيرون يستخدمونه كمصدر دخل بديل، لكن خارج أيّ رقابة أو تنظيم، ما فتح الباب واسعاً أمام الابتذال، وتبييض الأموال، والممارسات غير القانونية التي تجد رواجاً بسبب غياب المعايير والمساءلة.
ويضيف: "وصلت الأمور إلى حدّ استخدام المنصة لتسويق خدمات دعارة، عبر نظام الهدايا والدعم المباشر. إذ يمكن لأي مستخدم تلقّي مئات أو آلاف الدولارات من متابعين، في عمليات غالباً ما تفتقد للشفافية".
الناطور يعتبر أيضاً أنّ دمج منصّة عالمية مثل "تيك توك" بين بلدان ذات ثقافات متباينة، مثل المجتمعات المحافِظة كلبنان وليبرالية كالولايات المتحدة، من دون تطبيق قواعد متمايزة، أدى إلى خلل أخلاقي واضح كما نشهده اليوم. ويرى أنّ أخطر ما يحدُث أنّ "تيك توك" أعاد تعريف ما هو مقبول أخلاقياً داخل المجتمعات العربيّة بسبب التكرار وكثرة التداول، موضحاً أنّ المجتمع بدأ يتكيّف مع هذا الانحدار على أنه جزء من الحياة اليومية، في تحوّل خطير يمسّ الوعي والذوق العام. مؤكداً أنّ وفي ظل هذا الواقع، يُقصى المحتوى التربوي والتعليمي من الواجهة، بينما تُمنح الأضواء والدعم للمحتوى الفارغ، ما يرسّخ منظومة رقمية تكافئ التفاهة وتهمّش القيمة.
لكنّه يشير في المقابل، إلى أنّ دولاً مثل الهند وباكستان وإندونيسيا اتّخذت إجراءات صارمة، من حظر أو رقابة مشدّدة على التطبيق، بعد ملاحظة التأثيرات السلبية على مجتمعاتها، بينما لا يزال العديد من الدول العربية، ومنها لبنان، يتعامل مع الموضوع بتراخٍ، ما سمح بتفاقم المشكلة بشكل مستمر.
الربح يبرّر التغاضي
ويشير الناطور إلى أنّ التساهل الفاضح مع المحتوى المنفلت على "تيك توك" ليس وليد الصدفة، بل تقف خلفه دوافع مالية واضحة. ويؤكد أنّ المنصّة تحقّق أرباحاً ضخمة من هذا النوع من المحتوى، نتيجة الدعم المالي المباشر الذي يقدّمه المتابعون للمؤثّرين. ولهذا، تفضّل الشركة المالكة الإبقاء على هامش واسع من الحرية دون فرض قيود صارمة، حرصاً على عدم المساس بعوائدها المالية. لافتاً إلى أنّ "تيك توك" يقتطع نسباً كبيرة من قيمة الهدايا الرقمية التي يمنحها المستخدمون لصنّاع المحتوى، ما يجعل أيّ محاولة لضبط هذا المحتوى بمثابة تهديد مباشر لمصدر دخل أساسي للمنصّة.
وفي ختام حديثه، يؤكّد الناطور أنّ المشكلة ليست في "تيك توك" نفسه، بل في طريقة استخدامه وسط غياب الأُطر القانونية والرقابية. ويقول: "نحن بحاجة إلى قوانين تحكم العالم الرقمي، وحملات توعية تعزّز المحتوى الهادف، فلا يجوز ترك جيل كامل يُربّى على الشهرة السريعة والربح السهل مهما كلف الأمر".
ثانياً: التأثيرات النفسية على الأجيال
انطلاقاً من الواقع الجديد، تفتح الاختصاصية في علم النفس العيادي ربى بشارة هذا الملف لتحلّل أبعاد هذه المرحلة الانتقالية نفسياً واجتماعياً، وتكشف في حديثها لـ "نداء الوطن"، أنّ التحوّلات الرقمية المفاجئة لم تكن سهلة الهضم، لا سيّما بالنسبة لجيل التسعينات وما سبقه، الذين عاشوا انتقالاً تدريجياً من وسائل تواصل بسيطة إلى عالم رقمي معقّد وسريع. من الهاتف الأرضي، ومراسلات "MSN"، إلى الهواتف الذكية، ثم "فايسبوك"، وها هم اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي و "تيك توك".
وفقاً لبشارة، يشعر هؤلاء ومن بينهم الرجل الستيني، بالغربة في عالم لا يشبههم ويعيشون بين حنين لماضٍ كان أقرب للطبيعة والصدق، وبين واقع لا يستطيعون مجاراته أو الانخراط فيه بالكامل، بسبب عدم قدرتهم على تقليد "الترندات" أو فهم ثقافة السرعة.
وتعتبر أنّ رغم تعدّد المنصات، يبقى "فايسبوك" الأقرب لهذا الجيل، إذ يُوفّر نوعاً من التواصل المتّزن والراقي، لما فيه من ضوابط أخلاقية وأسلوب في التواصل يلائم الأشخاص الذين يبحثون على هذا النوع من الترجمة للذات والتفاعل، أما منصّة "أكس" فتبقى الأولى لتبادل الأفكار السياسية.
في المقابل، ترى بشارة أنّ "تيك توك"، المنصّة الأكثر تفلّتاً من القيود، هي من أكثر المنصّات استقطاباً للشباب بالإضافة إلى كافة المراحل العمريّة بنسب أقلّ، مؤكّدةً أنها لم تغيّر مفهوم الشهرة فحسب، بل أسّست لثقافة جديدة تقوم على الهوس باللحظة والتفاعل الفوري، ما ساهم في تصاعد القلق الاجتماعي وزعزعة الاستقرار النفسي لدى فئات واسعة، خصوصاً الشباب، نتيجة البحث المستمر عن التقدير الرقمي، والاعتماد على المؤشرات اللحظية لتحديد القيمة الذاتية، فدخل كثيرون في دوّامة تنافس لا تهدأ، على حدّ قولها، حيث تسود مشاعر النقص و"الخوف من التفويت"-"Fear of missing out (FOMO)".
وتلفت أيضاً إلى أنّ هذه المتغيّرات الرقميّة، ساهمت بزيادة حالات القلق والاكتئاب والأرق، إضافةً إلى ضعف التركيز، وتراجع الذاكرة قصيرة الأمد، نتيجة التعرّض المكثّف للمحتوى الرقمي المتقلب والسريع.
وسط هذه الفوضى البصرية والاجتماعية، لا تنسى بشارة الحديث عن تأثير ما يحصل على المرأة، موضحة أنّ الضغوط المرتبطة بمظاهر الجمال وإن لم تكن وليدة اللحظة، بل تعود إلى منصات ومصادر سابقة، إلا أنها تصاعدت بشكل ملحوظ مع "تيك توك"، حيث بات الشكل الخارجي معياراً أساسياً للقبول والظهور، ما ضاعف من الأعباء النفسيّة على الفتيات والنساء.
أما الرجل، فتراه أيضاً في موقع لا يُحسد عليه، حيث يُطلب منه المثالية النفسية والمادية، "الصورة النمطية للمرأة العصرية تضع الرجل في سباق مع محدودية إمكانياته"، تقول بشارة، مضيفةً "وهذا يولّد شعوراً بالتقصير والعجز، في منظومة لا تعرف الرحمة ولا التوازن.
صنّاع العمل الحقيقيون ضائعون
وفي هذا السياق، تلفت بشارة إلى أن صُنّاع العمل الحقيقيين، من كتّاب ومخرجين ومسرحيين وأكاديميين، باتوا يشعرون بتهميش كبير أمام صُنّاع المحتوى الرقمي. وتوضح: "الكثير من المبدعين يعجزون عن مجاراة هذا النمط من الإنتاج السريع والترندات اللحظية، فيشعرون أنّ نتاجهم، مهما كان عميقاً، لا يُكافَأ كما يُكافَأ المحتوى السطحي، ومن الطبيعي أن يشعروا بالإرهاق أو العزلة حين يُطلب منهم تقديم مادة تشبه ما يُروَّج على المنصات، بدلاً من تقديم رؤيتهم وفنّهم، ما يؤثّر على صورة الإنتاج الثقافي برمّته".
وتوضح بشارة أنّ الإدمان على "تيك توك" في لبنان بدأ خلال جائحة كورونا وبعد انفجار 4 آب، حين لجأ عدد كبير من الشباب اللبنانيين إلى "تيك توك" بحثاً عن الترفيه والتنفيس، لكنهم دخلوا لاشعورياً في إدمان الـ "scrolling" المستمرّ، وكأنهم يبحثون عن شيء يُرضيهم أو يُشبههم، من دون أن يجدوه.
وتؤكّد في الختام، أنّ "المطلوب اليوم ليس محاربة التكنولوجيا، بل ترشيد استخدامها، ومرافقة الأفراد نفسياً وتربوياً ليستعيدوا توازنهم وسط عالم يتغيّر كل دقيقة".
في النهاية، لا مفرّ إذاً من الإقرار بأنّ المواجهة ليست مع المنصّات، بل مع الطريقة التي نعيش بها هذا الزمن الرقمي. المواجهة تبدأ بوعي فردي، وتحتاج إلى سياسات تربوية وثقافية وإعلامية تجرؤ على أن تُعيد الاعتبار للمعنى، وتُعيد للإنسان مكانته، قبل أن يُستبدل تماماً بصورة افتراضية فارغة من كلّ جوهر.