من "الدرّة" إلى لبنان طهران تبالغ في "مونتها"

فجأة تراجعت مناخات الاسترخاء الإقليمي والتوقّعات الإيجابية لمناخات التفاوض على مسارَيْ المحادثات الأميركية الإيرانية التي تمّت في سلطنة عُمان، وتقدُّم تطبيع العلاقة السعودية الإيرانية، لا سيّما بعد التصريحات المتبادلة عن الشراكة في حقل "الدرّة" الغازيّ، وعادت المخاوف من مواجهة عسكرية بين إسرائيل ومحور "الممانعة" و"الحزب" في جنوب لبنان وإمكان امتدادها إلى غزّة وسوريا.
في وقت أوحت جملة مؤشّرات بأنّ نهج "صفر مشاكل" في الإقليم محفوف بالعقبات الكبيرة، على الرغم من ترجيح الحاجة إلى "الصبر" من فرقائه، ولا سيما السعودية، عادت الحرب الكلاميّة بعد أسبوعين أو ثلاثة من التهدئة النسبية بين دول الغرب وإيران، سواء في شأن إحياء التفاوض على النووي أو في ما يخصّ الأزمات الإقليمية.

ضغط الجمهوريّين بالكونغرس.. والتوتّر في مياه الخليج
لرصد التراجع في موجة التفاؤل على مسار التفاوض الأميركي الإيراني  وقائع واحتمالات هي التالية:
- في 23 حزيران سعى الجمهوريون في مجلس النواب الأميركي إلى استدعاء كبار المسؤولين في إدارة بايدن بسبب جهودهم السرّية لإبرام اتفاق نووي مع إيران. تفاعل التحرّك الجمهوري، المترافق مع الاعتراض الإسرائيلي على مضامين التفاوض الذي يعكسه اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، وصولاً إلى إحراج إدارة الرئيس جو بايدن، وأدّى ذلك إلى شبه تجميد لمهمّة رئيس الوفد الأميركي المفاوض روبرت مالي الذي اتُّهم بتسريب معلومات للجانب الإيراني.
- عودة التشنّج إلى مياه الخليج بعد اتّهامات أميركية لـ"حرس الثورة" الإيراني في 6 تموز بسعي قوّاته إلى احتجاز ناقلتَيْ نفط بالقرب من مضيق هرمز، وإطلاق الإيرانيين النار على ناقلة فيما عزت سلطة الموانئ الإيرانية المحاولة إلى أنّ قواتها سعت إلى اعتراض ناقلة نفط اصطدمت بسفينة إيرانية.
- في 212023-06- أخضعت وزارة الخزانة الأميركية 50 كياناً ومؤسّسة لعقوبات التعامل مع النظام الإيراني، بينها 5 مؤسّسات إماراتية، وهو ما يدلّ على مواصلة حصار إيران عبر جيرانها، بعد نجاحها في الالتفاف على العقوبات وصولاً إلى تمكّنها من رفع إنتاجها للنفط والغاز، وبيعه بسعر السوق العالمي خلافاً لمرحلة سابقة من التهريب الذي دفعها إلى البيع بأسعار مخفّضة.

الانحياز الإيرانيّ لروسيا أم تسليح الحوثيّين؟
- سبق ذلك الشهر الماضي ضبط البحريّة الأميركية عدداً من السفن التي تهرّب السلاح إلى الحوثيين في اليمن.
- في 6 تموز انتقد مندوبو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في مجلس الأمن السياسات الإيرانية، مع التركيز على اتّهام إيران بتزويد روسيا بالمسيّرات القتالية لاستخدامها في الحرب على أوكرانيا، واعتبار ذلك "انتهاكاً" للقرار الدولي 2231، ودعوة الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى إجراء تحقيقات في هذا الموضوع. واتّهمت ألمانيا وإنكلترا وفرنسا النظام الإيراني بانتهاك قرار مجلس الأمن، ودعت إلى تمديد العقوبات الأممية الصاروخية التي ستنتهي في تشرين الأول المقبل. ويُذكر أنّه سبق لـ"أساس ميديا" أن كشف في 27 حزيران الماضي أنّ المفاوضات الأميركية الإيرانية السرّية في سلطنة عُمان التي تحوّلت مباشرة وتتعلّق بخفض تخصيب اليورانيوم وتبادل السجناء والإفراج عن أرصدة لطهران وتخفيف العقوبات، شملت إثارة واشنطن مسألتَي توقّف إيران عن تزويد روسيا بالمسيّرات والأسلحة، وضمانات بعدم تعرّض أذرعها للوجود الأميركي في سوريا والعراق. فهل شكّل هذان الطلبان عقبة أمام إنجاز التقدّم المفترض؟

اتّفاق بمظلّة تصعيد أم تفاهم غير مكتوب؟
مع أنّ هذه العوامل وغيرها، بالإضافة إلى الانسداد السياسي في لبنان وتوقّع تعثّر الخطوات المطلوبة من نظام بشار الأسد لإنجاح التطبيع العربي معه ورفع عقوبات أميركية عنه، أطلقت المخاوف من مواجهة عسكرية في المنطقة قد تفتح آفاق التسويات والحلول، قابلت أوساط مطّلعة المعطيات العلنية والضمنية لتراجع التفاؤل بقرب اتفاق أميركي إيراني، بالدعوة إلى عدم استبعاد المضيّ قدماً في إنجازه على الرغم من تراجع أجواء التفاؤل:
- يقول بعض مراكز الأبحاث والدراسات المقرّبة من الجمهوريين إنّ الاتفاقات الصعبة تجري عادة تحت غطاء من التصعيد للتغطية على إنجازها وليس بالضرورة أن يؤدّي إلى نسفها. ومن هنا بعض أجواء التصعيد بين إسرائيل و"الحزب" على جبهة لبنان الجنوبية والتلويح بمواجهة عسكرية لا يريدها أيّ من الفرقاء، وخصوصاً الولايات المتحدة التي لا تريد حرباً في الشرق الأوسط موازية للحرب في أوكرانيا.
- نشرت جريدة "لوموند" الفرنسية في 26 حزيران الماضي تقريراً يرجِّح أن تُتوَّج مفاوضات عُمان باتفاق أميركي إيراني لا يرقى إلى حلّ جذري للمسألة النووية، ويقتصر على قضايا عالقة بين الجانبين (تبادل السجناء والإفراج عن أرصدة...)، ويكون على شكل "تفاهم غير رسمي وغير مكتوب" (شفهي). ووصف أحد خبراء "معهد واشنطن للدراسات" هذا الاتفاق بالخطة "ج" plan c))، خلافاً للخطة "أ" التي كان يطمح من خلالها جو بايدن إلى إحياء الاتفاق النووي للحدّ من إمكانية نجاح طهران في تصنيع قنبلة نووية، وليكون عنصراً لمصلحته في حملته الانتخابية للرئاسة عام 2024. ومن الأسباب الرئيسة لترجيح هذا الخيار صعوبة تمرير اتفاق كالذي جرى الإعداد له في الكونغرس الأميركي.

إفراط إيرانيّ في الإمساك بالممرّات المائيّة
إلا أنّ تراجع الآمال بتقدّم أجواء الاسترخاء الدولي الإقليمي لم يقتصر على العلاقات الأميركية الإيرانية، بل شمل التوقّعات المتفائلة بتطوّر العلاقة السعودية الإيرانية. فطهران تعاملت مع الليونة السعودية بمزيد من "المونة" (أو المبالغة) على الرياض في عدّة ميادين مهمّة لها، سواء في التطبيع العربي مع النظام السوري، أو في اليمن حيث تتمّ مواصلة تهريب السلاح للحوثيين، فضلاً عن الكشف عن عمق الخلاف على حقل "الدرّة" الغازي. وتطرح الأوساط المتابعة للسلوك الإيراني أسئلة كثيرة عن مدى التجانس في مراكز القرار الإيراني حيال تسريع التعاون مع الرياض. ومن مظاهر التعثّر في هذا المجال:
- في 3 حزيران الماضي أعلن قائد القوات البحرية الإيرانية، الأدميرال شهرام إيراني، تشكيل تحالفات إقليمية ودولية جديدة، ومنها تشكيل البحرية الإيرانية قريباً تحالفاً مشتركاً مع دول المنطقة، بما في ذلك السعودية والإمارات وقطر والبحرين والعراق. لم يصدر أيّ تعليق من الجانب السعودي في هذا الشأن. وبينما يقوم المفهوم الإيراني لحفظ أمن مياه الخليج، من مضيق هرمز إلى باب المندب، على التخلّص من الوجود الأميركي البحري، كانت محادثات أميركية سعودية تجري قبل أسابيع من أجل التنسيق في حفظ الممرّات المائية. وبدا أنّ طهران سعت إلى استغلال التباينات السعودية الأميركية من أجل فرض رؤيتها للممرّات المائية، المنسجمة مع اقتراح روسي قديم يقضي بتولّي دول المنطقة هذه المسؤولية. وهذا يزيد من الحساسية الأميركية حيال سلوك طهران، في وقت لم تصل التباينات السعودية الأميركية إلى حدّ استبعاد واشنطن من هذه المعادلة وفق الطموحات الإيرانية. بل إنّ مأخذ الرياض على واشنطن أنّها لم تنخرط كفاية في أمن الممرّات.

"المونة" تتمدّد من "الدرّة" إلى لبنان
- ذهبت "المونة" الإيرانية على السعودية تحت مظلّة اتفاق بكين لاستئناف العلاقات بين الدولتين، إلى حدّ إعلان المدير التنفيذي لشركة النفط الإيرانية محسن خجستة في 2 تموز اتفاقاً بين طهران والرياض على خطط لتطوير الحقول النفطية المشتركة بين البلدين، وصولاً إلى زيادة الإنتاج فيها، وبدا هذا الموقف نوعاً من الإلزام المسبق للرياض بالشراكة في حقل "الدرّة" الغازي، وتخطّياً لاتفاق بين السعودية والكويت عُقد العام الماضي على أنّ هذا الحقل مشترك بينهما "فقط"، كما صرّح مصدر سعودي مسؤول بعد صدور الموقف الإيراني.

- ينسحب الأسلوب الإيراني في الميادين المذكورة على الإفراط في مونة مؤيّدي إيران على السعودية في ما يخصّ معالجة الأزمة في سوريا ولبنان، فلا يتوقّفون عن تسريب التوقّعات عن أنّ الرياض ستنسجم مع الخيارات الإيرانية في البلدين، فيما الوقائع لا تدلّ على ذلك.
تبقى هناك حاجة إلى انتظار تبلور الأحداث للإجابة عن السؤال التالي: هل تفرط طهران في "مونتها" لمراهنتها على الاتّفاق مع واشنطن؟