مواجهات الساحل السوري لا حرب مفتوحة ولا استقرار فعليًا...النظام الجديد أمام معادلة دقيقة

لا يمكن النظر إلى الاشتباكات التي شهدها الساحل السوري مؤخرًا بوصفها حادثًا أمنيًا عابرًا أو مجرد مواجهة محدودة مع مجموعات مسلحة معزولة. بمعنى أوضح فإن ما جرى ، والمرجح أن يتكرر في مراحل أخرى، يتجاوز بعده الميداني، ليشكل اختبارا سياسا وأمنيا حاسما لطبيعة المرحلة المقبلة، وإظهار قدرة الدولة على الانتقال من إرث الحرب إلى منطق الحكم والاستقرار.

مشهدية المواجهات الحاصلة في الساحل السوري الذي يضم محافظتي اللاذقية وطرطوس ومدن بانياس، وجبلة، بالإضافة إلى مناطق مثل كسب والقرداحة، ترسم أكثر من علامة استفهام خصوصا أن هذه المدن ظلت في منأى نسبي عن خطوط التماس الكبرى طيلة سنوات.

في دلالات المكان يحمل الساحل السوري رمزية خاصة على المستويين الاجتماعي والسياسي، إذ يُعدّ منطقة مكتظة بالسكان، ذات بنية عسكرية وأمنية كثيفة، إضافة إلى كونه مركزا حيويا اقتصاديا وبحريا. لذلك، فإن أي اضطراب فيه يُنظر إليه على أنه مؤشر إنذار أكثر منه حادثا أمنيا عاديا. كما أن الضغوط الاقتصادية المتزايدة، وتراجع الخدمات، وازدياد الاحتقان الاجتماعي، كلها عوامل تجعل من أي حادث أمني شرارة محتملة لتوترات أوسع إذا لم يتم احتواؤها سريعا. وعليه، فإن أي اشتباك في هذا الموقع الجغرافي يُقرأ سريعا على أنه مؤشر إلى خلل أعمق، أو رسالة من أطراف لم تُسلّم بعد بحقائق التغيير.

في ما خص التوقيت ترى المجموعات المسلحة المرتبطة بالنظام السابق والمستفيدة من اقتصاد الحرب في المرحلة الحالية تهديدًا مباشرًا لنفوذها، ما يدفعها إلى اختبار حدود القوة والردع.

من منظور سياسي تلفت مصادر "المركزية"  إلى أن المجموعات المسلحة التي تعبث بأمن الساحل السوري اليوم لا تسعى إلى مواجهة شاملة أو استعادة سلطة مركزية، بقدر ما تحاول تعطيل مسار تثبيت الدولة الجديدة، وفرض نفسها كرقم أمني صعب لا يمكن تجاوزه واستخدام السلاح كورقة تفاوض غير معلنة. من هنا ترى أن الاشتباكات تمثل صراعًا على مفهوم السلطة :هل هي سلطة القانون والمؤسسات، أم سلطة الأمر الواقع المتجذرة بالسلاح والعلاقات المحلية؟.

في المقابل، تتابع المصادر تجد الدولة نفسها أمام معادلة دقيقة. فالتراخي الأمني قد يُفسَّر ضعفا أو تخاذلا أو تعاوناً ضمنياً مع الجماعات المسلحة ، مما يشجّع على تكرار التحدّي، بينما قد يؤدي الإفراط في المقاربة الأمنية إلى توسيع دائرة الاحتقان الاجتماعي، خصوصًا في بيئة أنهكتها سنوات طويلة من الحرب والعقوبات والضغوط الاقتصادية. لكن أخطر ما قد ينتج عن هذه الأحداث بحسب المصادر هو الاكتفاء بالحل الأمني، من دون تفكيك البنية التي أنتجت هذه المجموعات أصلًا. وترى أن غياب المعالجة السياسية والاجتماعية من ضبط الاقتصاد غير الرسمي، إلى إعادة هيكلة المؤسسات المحلية، وفتح قنوات تمثيل حقيقية يجعل من الساحل السوري ساحة توتر مزمن، لا حربا مفتوحة، ولا استقرارا فعليًا.

من هنا تخلص المصادر إلى أن الإشتباكات لم تكن نتيجة مواجهة تقليدية بين جبهتين واضحتين، بل جاءت على خلفية محاولات فرض السيطرة وضبط مجموعات مسلحة، بعضها يعمل بصورة مستقلة أو شبه مستقلة عن القيادة المركزية.

نهاية سيناريو الفوضى والإشتباكات الدائرة في الساحل السوري مفتوحة على عدة احتمالات تقول المصادر وفي مقدمتها صعوبة الانتقال من منطق الحرب إلى منطق الدولة بشكل كامل، خصوصا في المناطق التي شهدت عسكرة طويلة، ووجود تصدعات داخل البنية الأمنية المحلية، مما يفرض وجود معالجة تنظيمية لا تقتصر على الحل العسكري، وخطر تحول الاشتباكات المحدودة إلى نمط متكرر إذا لم تُعالج الأسباب الجذرية المرتبطة بالسلاح غير المنضبط والاقتصاد غير الرسمي. إلا أن سرعة تدخل القوات الرسمية واحتواء الاشتباكات تعكس إصرارا على منع الانفلات الأمني، وعدم السماح بعودة الفوضى.

هل يصار إلى احتواء هذا المشهد الأمني؟ السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القصير هو تشديد الإجراءات الأمنية، وتنفيذ حملات لضبط السلاح وملاحقة المجموعات الخارجة عن السيطرة، بهدف منع تكرار مثل هذه الحوادث. لكن في حال اقتصرت المعالجة على الحلول الأمنية فقط، من دون مقاربة اجتماعية واقتصادية، فقد يشهد الساحل اشتباكات متقطعة مرتبطة بخلافات محلية أو صراعات نفوذ. أما السيناريو الذي لا يزال "يُطبخ" على نار هادئة وفق المصادر حتى الآن، لكنه الأكثر استقرارًا على المدى البعيد، ويقوم على إعادة هيكلة المنظومة الأمنية محليًا ودمج أو تفكيك التشكيلات المسلحة غير النظامية، وتحسين الأوضاع المعيشية وخلق قنوات تواصل مع المجتمع المحلي.

خلاصة المشهد، تختم المصادر أن ما جرى في الساحل السوري أمس لا يمكن فصله عن السياق العام للأزمة السورية الممتدة منذ أكثر من عقد علماً أن الاشتباكات لا ترقى إلى مستوى تهديد شامل، إلا أنها رسالة تحذير واضحة بأن الاستقرار الأمني ما زال هشاً، وأن أي إهمال في معالجة جذور التوتر قد يفتح الباب أمام تصعيد غير محسوب.

يبقى مستقبل الساحل كما سوريا عمومًا، مرتبطًا بقدرة الدولة على فرض القانون من جهة، وفتح أفق سياسي واجتماعي واقتصادي من جهة أخرى، يمنع عودة السلاح ليكون لغة التعبير الوحيدة.