نواف سلام "سيف الدولة" البيروتي

نموذج رجل الدولة الذي يقدّمه نواف سلام في رئاسة الحكومة، يمهّد الطريق أمام عودة السنّة إلى مكانهم التقليدي المتمثّل في الحضور الجدّي والفاعل ضمن بنية الدولة، بعيدًا من سطوة الزعامة التي تختزل تنوعهم، وتُذيب انحيازاتهم الفكرية والثقافية، لإنتاج عصبية سنية تسبح عكس مجرى التاريخ، فتتحول إلى "مظلومية" صالحة للتجارة والمقايضة على طاولة السياسة.

من "الدولة العثمانية" إلى "دولة لبنان" وصولاً إلى "الطائف"، تميّز السّنة بوفرة رجال الدولة، وندرة الزعامات العابرة للمناطق. كان رفيق الحريري استثناءً وسيبقى كذلك، جمع في شخصه رجل الدولة والسياسي والدبلوماسي إلى جانب الزعامتين السنّية والوطنية، لكنه حرص على إبراز الأولى بعناوين شتّى، لعلّ أشهرها "ما حدا أكبر من وطنه".

في لحظة تأسيسية، يعيد الرئيس نواف سلام السنّة إلى مبادئ "الدولة أولًا"، المكان الذي تطمئنّ له أفئدتهم وعقولهم، ليشكّل مع رئيس الجمهورية جوزاف عون "شهابية" بإصدار حداثي "2.0"، يمكن التأسيس عليها في عملية إعادة بناء الدولة.

منذ تكليفه حتى الأمس القريب، لم تتوقّف الحملات التي تطاله، وتطعن في سنيته تارّةً، وتخوّن وطنيته طورًا، وتصوره بالضعيف أطوارًا، وتعمل على إنشاء مقارنات مع زعماء آخرين لإظهار فجوة تلتهم الرصيد الكبير الذي دخل به السراي. حتى أن الكثير منها ضربت له مواعيد لا تتجاوز آخر الصيف للخروج من رئاسة الحكومة ببطاقة حمراء، يتضامن في رفعها سدنة السلطة الذين قادوا البلاد إلى هاوية سحيقة.

ومع ذلك، لم ينجرف الرئيس سلام إلى الافتعال أو الاستعراض، وبقي على ما دخل به السراي من أفكار، متحيّنًا اللحظة المناسبة لتطبيقها، وتظهير نموذج رجل الدولة الذي يقود بالشراكة مع رئيس الجمهورية، ابن المؤسسة العسكرية، عملية تحرير قرارها وميثاقها الوطني من وصاية "الدويلة"، والزعامات التي طغى وهجها على المقامات الدستورية.

أعاد تجسيد المبدأ الشهابي من خلال التمسك بالكتاب، أي الدستور، نصًّا وروحًا، فأصرّ على الفصل الواضح بين السلطات خلال تأليف الحكومة، رغم إدراكه نوع الرقابة والمساءلة ومدى ارتباطهما بسياقات مادية وشعبوية وانتخابية. لم يمنعه تمسّكه بصلاحياته الدستورية من إظهار مرونة لاحتواء التمذْهب السياسي الشيعي في لحظة انكسار، بموازاة دفع ممثليه إلى الموافقة على "حصرية" السلاح في يد الدولة وحدها، وتطهير البيان الوزاري من "الثلاثية الخشبية".

بدأ بدفع أثمان التمسّك بالدستور، إذ لم ترضِ الحكومة الطامحين إلى التخلّص من هيمنة الدويلة، ولا "الثنائي الشيعي"، ولا القوى والتيارات المتموضعة في المسافة بينهما. وفي أول امتحان جدي ظهر معزولًا في حكومته، بعد إصراره على اعتماد التصويت كمبدأ ديمقراطي في تعيين كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان.

ما فعله الرئيس نواف سلام كان مقدّمة لما هو آتٍ، حيث كان يدرك أن لحظة القرار في "حصرية السلاح" دانية لا ريْب فيها، فضرب المثل بنفسه، وعقد العزم على عدم الانصياع لتهويل "الحزب" الانقلابي، أو مراوغات الرئيس بري التي تلوي عنق الدستور، واعتماد التصويت، واثقًا من نتيجته المرتبطة بالتوازنات التي بنى الحكومة عليها، واستنفاد رئيس الجمهورية كل الوسائل المتاحة لإقناع "الحزب" بالحسنى بالاندماج في مسار الدولة.

في جلسة 5 آب، كان نواف سلام "البيروتي العريق" وما يختزنه من إرث وتقاليد دولتية بمثابة "سيف الدولة" الذي قاد عملية إصدار القرار التاريخي، بتحديد 31 كانون الأول 2025 كنهاية لأطول انقلاب في التاريخ المعاصر، بدأ مع "اتفاق القاهرة" الذي سلب الدولة حصرية السلاح لحساب دويلات وجيوب تبدّلت هوياتها على وقع موازين القوى الإقليمية، حيث أظهر الحزم في تطبيق الدستور، والالتزام بالاتفاقات الدولية، وتدخل لشدّ عصب الوزراء الذين وَهَنَتْ عزائمهم وتهيّبوا الموقف.

ولولا 5 آب لما كانت قرارات 7 آب، والتي لا تشكّل انتصارًا لأشخاص، بل لمفاهيم الديمقراطية ورجال الدولة، وتجسيدًا لروحية "الميثاق الوطني" الذي صاغه بشارة الخوري ورياض الصلح. وإذا كانت "صيغة 1943" أدت إلى استقلال البلاد، فإن "صيغة 2025" تقود عملية استرداد الدولة وقرارها المستقل.

يقول بعض النواب والشخصيات المقرّبة منه، ممّن التقوه عشيّة 5 آب، بأنه لم يُظهر أي مؤشرّات لهذا التوجّه الحاسم، نتيجة التزامه بـ "موجب التحفظ" كرجل قانون، والذي جعله يخسر طوعًا معركة بناء الصورة لدى الرأي العام، وأفضى إلى ظهور مناخ بتمييع المسألة أو ترحيلها.

بيد أن مفاعيل القرارات التاريخية منحت الرئيس نواف سلام مشروعية شعبية واسعة، تعزّزت أكثر بالمواقف التي أطلقها خلال استقبال علي لاريجاني، الذي تفاجأ بتعرّضه لتوبيخ بلغة سيادية دبلوماسية مُحكمة، وموقفه الصارم من تخوين نعيم قاسم لحكومته وتهديده بالحرب الأهلية، وأتاحت تسليط الضوء على نهجه ومقاربته من منظور رجال الدولة، وليس حسب المعايير الزعاماتية أو المحاصصة الطائفية. لتتحوّل الانتقادات الدينية إلى ثناء على "منابر الجمعة"، والمآخذ لعدم وجود رجال له داخل المؤسسات، إلى الإشادة باستقطابه نخبًا من تيارات فكرية مختلفة لتسنّم مناصب إدارية، من دون أن تربطه بهم معرفة مسبقة.

وهذه الخاصية تعدّ من الخصائص الرئيسية لرجل الدولة، يتميّز بها عن الزعامة التقليدية، لتقديم أداء سياسي متحرّر من قيود اللعبة الانتخابية والعلاقة الزبائنية، يؤسّس لإعادة توثيق ارتباط السنة بمفهوم الدولة، ويمثل امتدادًا للتيار التقليدي المرتبط بثقافتها وقيمها، يفسح المجال أمام تحول جذري في قيم التمثيل السياسي المبني على الثقافة والأفكار والمواقف، وليس على الأموال والخدمات. وهذا العامل هو أشدّ ما تفتقده الساحة السنية في السنوات الأخيرة، بعدما ذوت النخب الفكرية والسياسية في ظل الزعامات، ومن أبى هاجر أو بقي على هامش اللعبة.