هل تقود لجنة "الميكانيزم" عاجلًا أم آجلًا إلى تفاهم اقتصادي؟

شهدت منطقة الناقورة، جنوب لبنان، في توقيت بالغ الحساسية السياسية والأمنية، الجولة الثانية من المحادثات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، في إطار اجتماعات لجنة مراقبة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، المعروفة بلجنة "الميكانيزم". 

هذه الجولة، لا تبدو تقليدية في مضمونها ولا في إشاراتها السياسية، خصوصًا مع ما رشح عن رفع إسرائيل مستوى تمثيلها في هذه المفاوضات، وفق ما أفادت القناة 12 الإسرائيلية، في خطوة تعكس إدراكًا متبادلًا لدقة المرحلة وخطورة الملفات المطروحة.

وما يضفي على هذه الاجتماعات بعدًا يتجاوز منطق التهدئة الأمنية التقليدية، هو عن تخصيص اجتماع الناقورة لبحث آفاق التعاون الاقتصادي على طول الحدود، في تحول لافت في مقاربة الجنوب، من كونه خط تماس عسكري إلى مساحة محتملة لإعادة هندسة الواقع الاقتصادي والسياسي. 

بالتالي هذا الطرح، وإن بدا للبعض طموحًا أو سابقًا لأوانه، إلا أنه يعيد إلى الواجهة أفكارًا طرحت سابقًا في سياقات دولية، لا سيما على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حين جرى الترويج لمشاريع اقتصادية عابرة للنزاعات، كمدخل لخفض احتمالات الحرب وإعادة إنتاج الاستقرار.

وفي هذا السياق، يوضح أحد الاختصاصيين الاقتصاديين في حديث لـkataeb.org أن فكرة التعاون الاقتصادي الحدودي لم تدفن يومًا، بل يجري إحياؤها كلما نضجت ظروف معينة، مشيرًا إلى أن إسرائيل لا تبدو في وارد التخلي عن هذا الطرح، لما تراه فيه من مكاسب استراتيجية بعيدة المدى. 

فالمشروع، وفق التصورات المتداولة، يقوم على إنشاء منطقة اقتصادية متكاملة تضم مصانع، ومناطق لوجستية، وربما مرفأ يندرج ضمن شبكة النقل البحري العالمي، ما من شأنه جذب رؤوس أموال خارجية وتحريك عجلة الإنتاج المحلي ورفع القدرة التصديرية للبنان.

ولا يقف الطموح عند هذا الحد، إذ يشير المصدر نفسه إلى أن المنطقة المقترحة قد تفتح الباب أمام حضور شركات طاقة عالمية للاستفادة من الموارد الطبيعية في جنوب لبنان، في محاولة لإعادة إنتاج نماذج اقتصادية شهدتها دول خرجت من نزاعات دامية وتحولت، بفضل الاستثمار والاستقرار النسبي، إلى مراكز اقتصادية مؤثرة. من هنا، لا يُطرح المشروع كمنطقة عازلة خالية من البشر أو السيادة، بل كمساحة لإعادة تعريف المصالح، بحيث يصبح الاقتصاد عنصرًا كابحًا لأي اندفاع نحو التصعيد العسكري.

ويشرح الخبير أن جوهر الفكرة يقوم على خلق واقع يجعل أصحاب الرساميل والاستثمارات أول المتضررين من أي حرب، ما يدفعهم حكمًا إلى الضغط لمنع الانزلاق إلى المواجهة، فحين تصبح المنطقة الاقتصادية عرضة للدمار الكامل في حال اندلاع نزاع، تتحول الحرب من خيار سياسي أو عسكري إلى تهديد مباشر لمصالح الناس ومعيشتهم، بما يغير حسابات الأطراف كافة.

غير أن هذا الطرح، على جاذبيته النظرية، لا يخلو من محاذير جوهرية، كَوْن نجاح أي مشروع من هذا النوع يبقى مشروطًا، أولاً وأخيرًا بقدرة الدولة اللبنانية على فرض مقاربتها وشروطها، وضمان ألا يتحول التعاون الاقتصادي إلى مدخل لفرض وقائع سياسية أو أمنية على حساب السيادة، كما أن معالجة الإشكاليات الأمنية والعسكرية تظل شرطًا مسبقًا لا يمكن القفز فوقه، إذ لا استثمار بلا استقرار، ولا استقرار في ظل سلاح خارج سلطة الدولة.

وفي هذا الإطار، يلفت المصدر إلى أن الموقف الرسمي اللبناني لا يزال يلفه قدر كبير من الغموض، في ظل غياب سقف سياسي واضح ومعلن، إلا أن التطورات داخل لجنة "الميكانيزم"، ولا سيما بعد تطعيمها بعناصر مدنية إلى جانب الشق العسكري، قد تفتح الباب أمام مقاربات أكثر شمولية في مراحل لاحقة، تشمل رؤية إسرائيلية مختلفة للواقع اللبناني، ولو عبر قنوات تفاوض غير مباشرة.

مع ذلك، يبقى من المبكر الجزم بمآلات هذا المسار، إذ لا تزال التعقيدات جسيمة، فيما تبدو الأولويات واضحة ومشروطة بنجاح خطة الجيش اللبناني في بسط سلطته ونزع السلاح على كامل الأراضي اللبنانية، باعتبار ذلك المدخل الإلزامي لأي تغيير اقتصادي أو سياسي مستدام.

ويختم المصدر: بعد ذلك فقط، يمكن الانتقال من منطق إدارة النزاع إلى منطق بناء المصالح، وحتى يحين ذلك، سيبقى جنوب الليطاني معلقًا بين احتمال أن يكون رافعة نهوض اقتصادي، أو أن يستمر كساحة اختبار دائمة لتوازنات القوة في المنطقة.