هل طبّق لبنان المعايير الدولية في انفجار المرفأ؟

علم الجريمة علم قائم بحد ذاته، هو بالتأكيد مختلف عن العلوم الجنائية والى حد بعيد لا يطبّق في لبنان "بتفاصيله"، ويغوص علم الجريمة في أسباب وتداعيات الجرائم، سلوكيات ودوافع مرتكبيها، ومواكبة أي جريمة،إدارة وحماية وحفظ مسرح الجريمة، بالإضافة إلى الظروف الثقافية والمناخية المصاحبة، والتأثير الاجتماعي للجرائم. ومن ناحية أخرى، من مهام عالم الجريمة وضع برامج تأهيلية للسجناء ما يسهل اندماجهم في المجتمع.

أحداث أمنية كثيرة عاشها لبنان منذ العام 2004 وآخرها  انفجار مرفأ بيروت في 4 آب  2020، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، ليطرح ذلك مدى تطبيق هذا العلم وتحديدًا حول حماية وإدارة مسرح الجريمة، خصوصًا أن الأجهزة الأمنية وفق أهل الإختصاص والمراجع المختصة تملك بنية تحتية متطورة من مختبرات وكفاءات وتقوم بجهود كبيرة لرفع الأدلة وتحليلها وتحديدًا في الـ 15 سنة الأخيرة. 

مسرح الجريمة والمسار الجنائي
يعرّف القائد الأسبق للشرطة القضائية والحائز على الماجستير في القانون العام العميد المتقاعد أنور يحيى مسرح الجريمة، في مقابلة مع "جريدة الأنباء الإلكترونية" بأنه "الوعاء الأكبر للأدلة المادية، والشاهد الصامت الذي ينتظر من يستمع إليه بحرفية عالية ويشير إلى حقائق لديه تشكل ركيزة القضاء الجزائي لإصدار الأحكام المناسبة".

ويشرح يحيى آلية المسار المعتمد في لبنان، إذ يعتمد النظام الفرنسي في تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية حيث لقاضي التحقيق سلطة إدارة مسرح الجريمة والتحقيق، بخلاف النظام الأنكلوساكسوني، (بريطانيا، أستراليا، كندا، الولايات المتحدة الأميركية) حيث تحقق الشرطة، تجمع الأدلة، وتقدم الملف التحقيقي الى القضاء الذي له حق التجريم أو التبرئة، مشيرًا إلى أنه في لبنان هناك عدّة أجهزة أمنية وعسكرية تعمل كضابطة عدلية مساعدة للنائب العام المختص (عدلي، مالي، عسكري).

ويضيف يحيى: "تهدف التحقيقات العدلية، لا سيما في جرائم جزائية مشهودة إلى تكوين سيناريو أقرب ما يكون للواقع ويُقدم إلى القاضي المختص (نائب عام أو قاضي تحقيق) ويشمل دراسة مسرح الجريمة وإدارتها". 
هذا وتتضمن دراسة مسرح الجريمة مكان حصول الجريمة، الجاني، المجني عليه، طريقة التنفيذ (Modus Operandi)، توقيت حصول الجريمة وأسباب الجريمة. 

معايير دولية وتبادل خبرات
يكثر الحديث دائمًا عند حصول أي حدث أمني حول المعايير التي تعتمدها الأجهزة اللبنانية في التحقيقات، وفي هذا السياق يوضح مصدر أمني لـ "جريدة الأنباء الإلكترونية" أن "قوى الأمن الداخلي تطبّق كافة المعايير الدولية في التحقيقات ومن ضمنها جريمة إنفجار المرفأ"، لافتًا إلى أنه "ثمة تبادل خبرات بين دول في هكذا أحداث كبرى".
ويشير المصدر إلى أنه "في عملية الإختصاص تطبّق كل الأسس، ونتائج النجاحات التي نراها تُبيّن أننا نسير وفق المعايير المتقدمة"، مضيفًا: "من حيث مسرح الجريمة أو المختبرات الجنائية أو مكاتب الحوادث في لبنان، فلديهم خبرة عالية في الحفاظ عليها. نملك كافة الأساليب العلمية و قد تم تطبيقها ضمن معايير دولية في التحقيقات وخصوصًا في إنفجار مرفأ بيروت".

ويفيد المصدر بأن مكاتب الحوادث هي التي تحافظ على مسرح الجريمة وفيما بعد يتابع المختبر الجنائي عمله الميداني أو تُحضر له الدلائل والآثار، وكل النتائج توضع بتصرف المحقق وبالتالي يتم تحليل ما تشكّل من معطيات وتتبين ظروف الحادث وزمن الحادث وبعض ما يمكن تحديده كشخصية المجرم والبصمة الجرمية. مشددًا على "أهمية المختبرات العلمية الموجودة، كما أن الدراسات والتحاليل تحقق نجاحًا بنسبة 100% بحسب معايير الأمم المتحدة وبالتنسيق معها، وعلى سبيل المثال في تحليل آثار المخدرات وفي دراسة الغبار وغيره".

إنفجار 4 آب .. التنسيق وإدارة الكارثة 
استعرض تحقيقنا في الفقرات أعلاه الخطوط العريضة للعمل الأمني في لبنان، ولكن يبقى السؤال هل طُبقت في انفجار 4 آب 2020؟ 
"ما تبين حتى الآن أن السلطات الأمنية اللبنانية قامت بواجباتها بالنسبة لإنفجار مرفأ بيروت" يقول مصدر مواكب للتحقيق لـ  "جريدة الأنباء الإلكترونية". فالأجهزة الأمنية من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي قد استخدمت كل إمكاناتها على صعيد الخبرات في الأدلة الجنائية وضبط الأدلة، كما تمت الإستعانة بخبرات وفرق تقنية أجنبية تحت إشراف القضاء ورقابة الجيش اللبناني". 

وشدد المصدر على أن "ضبط مسرح الجريمة ورفع الأدلة في الساعات الأولى جدّ مهم وهذا ما حصل في ساحة انفجار المرفأ من خلال أجهزة لبنانية وأجنبية، إذ كان التنسيق إيجابيًا". وعلى الأرجح أن التنسيق تم تلقائيا بعد انفجار المرفأ وأنه تم الاتفاق على توزيع المهام بحسب الاختصاص والمضي بجمع الأدلة بسرعة، علما أن الأفضل كان توحيد الإجراءات وإيجاد وحدة متخصصة بادارة الأزمة وإدارة الجرائم الكبرى.

لا ينفي المصدر صعوبة ضبط نطاق الإنفجار نظرًا لضخامة الحدث والحاجة إلى تدخل فرق متعدّدة للقيام بمهامها، "أما تحديد ما إذا كانت الإجراءات التي اتخذت كافية فهذا يُترك للتحقيق الذي يجريه المحقّق العدلي طارق البيطار".

الإنفجار بعدسة علم الجريمة 
إنطلاقًا من الإختلاف بين مهام وعمل الأدلة الجنائية وعلم الجريمة، من المفيد مقاربة ما حصل في إنفجار المرفأ من منظار هذا العِلم. وفي هذا الإطار تعتبر المتخصصة في علم الجريمة باميلا حنينة بو غصن في حوار مع  "جريدة الأنباء الإلكترونية" أن "للبنان خصوصية في موضوع الجرائم سيّما أن الأجهزة الأمنية في لبنان تقوم بعمل كبير وجبار بإكتشاف الجرائم". "لكن في المقابل إذا أردنا الغوص في التفاصيل التي تفرضها المعايير الدولية، فهي لا تُطبّق".
فلو طُبّقت المعايير الدولية في انفجار مرفأ بيروت تقول حنينة "لكنّا حددنا المسار الأولي لمتابعة التحقيقات وتمكنا من توضيح ما حصل بنسبة 50%، بمعزل عن الشق السياسي والأمني المرتبط بالملف".

من أبرز وأهم المعايير المعتمدة بحسب حنينة هو تحديد من يحق له الدخول والخروج من والى مسرح الجريمة، وفي هذه الحالة دُمّرت أدلة مهمة نتيجة دخول وخروج لأشخاص لم يكن من المفترض تواجدهم بعد حدوث الإنفجار، "للأسف اختفى الكثير من الأدلة جراء الحريق وعملية الإطفاء التي تطلبت إستخدام كمية كبيرة من المياه، إذ إن مسرح الجريمة الخارجي هو أكثر عُرضة لمحو الأدلّة لأنه يتعرض للكثير من العوامل الخارجية.

في الإطار عينه تُضيف حنينة أن رفع الأدلة تأخر لساعات متقدمة جدًا بعد الإنتهاء من عملية إطفاء الحريق والتي كانت أولوية خوفًا من أن تؤدي امتداداته لإنفجارات متتالية، كما لا يمكن أن نغفل عن أن نسبة الرطوبة والحرارة كانتا عاليتين وهذه العوامل البيئية أثرت على إختفاء أدلة في مسرح الجريمة. 
أما عن نطاق مسرح الجريمة او تحديده، فترى حنينة أنه "كان لا بد من توسيع رقعته أكثر ليطال كل شرفة تطاير اليها الغبار جراء الإنفجار، وألا ننسى أن البحر دفن أدلة وكذلك الإهراءات".

من سمير قصير الى أنطوان غانم .. ثغرات وتحديات
إنطلاقًا من أهمية الإدارة الصائبة وحماية مسرح الجريمة، يعود العميد يحيى بالذاكرة الى ما شاب مسرح الجريمة يوم إغتيال النائب أنطوان غانم في العام 2007 ويشرح أنه حضر كقائد للشرطة القضائية برفقة النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا، وقاضي التحقيق العسكري الأول رشيد مزهر، وكانت فوضى عارمة وتداخل "الفضوليين" ومن يبحثون عن أهلهم المفقودين وصحافيون ورجال سياسة ودبلوماسيون وعناصر أمنية وعسكرية متعددة، مشيرًا إلى أنه كان كل فريق يجمع الأدلة والكاميرات المنصوبة في المكان والمحيط ويستمع إلى الشهود من دون أي تنسيق بين الأجهزة وهي كلها تحت سلطة وإدارة قاضي التحقيق العسكري، الذي عمل جاهدًا لضبط الفوضى والطلب إلى عناصر الجيش اللبناني إبعاد كل الناس وإفساح المجال للشرطة القضائية والتقنيين فيها لجمع الأدلة والتحقق عبر خبراء المتفجرات والكلاب البوليسية من عدم وجود متفجرات أخرى بالمكان، لكن ظلت الأدلة والأشلاء المنتشرة ضمن دائرة شعاعها 50 مترا لأكثر من 24 ساعة.

ويوضح أن الفوضى كانت على أشدها في مسرح الجريمة  "على الرغم من محاولتنا نصب شريط أصفر     Do Not Enter لمنع دخول غير المكلفين الى مسرح الجريمة وكانت تتم في الوقت عينه عمليات إخماد الحريق وإنقاذ الجرحى من قبل الدفاع المدني والصليب الأحمر". هذا عدا عن التأثير السلبي لغياب التنسيق بين الأجهزة التي عاينت الأرض وفقدان الثقة فيما بينها لتبادل المعلومات.

وعليه، كان لا بد بحسب العميد يحيى أن يُكلّف قاضي التحقيق العسكري الأول (المكلف قانونًا بإدارة مسرح الجريمة)، جهازًا واحدًا بإدارة التحقيق وجمع الأدلة والإستماع للشهود وضبط الكاميرات والحصول على تحليل داتا الإتصالات من شركتي (ِAlfa وMtc ) ويُحصر عمل بقية الأجهزة خارج مسرح الجريمة لضبط الأمور والأدلة.

وفي سياق آخر، يذّكر يحيى بما حصل في جريمة إغتيال الصحافي والكاتب سمير قصير في العام 2005، ويقول: "أبدى عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي FBI الذين رافقناهم إلى مسرح جريمة الشهيد سمير قصير ذهولهم كيف دُفنت جثته قبل أخذ عينات من الذخيرة على ملابسه وجسده فتم استخراج الجثة بعد أكثر من 24 ساعة من دفنها وأعادوا المعاينة التقنية العالية لتحديد نوع المتفجرات وطريقة التفجير وكمية المتفجرات المستخدمة". 

توصيات لحماية الأدلة !
أمام حجم المخاطر التي تهدد بطمس معالم مسرح الجريمة وبالتالي بتضييع أدوات الحقيقة، يطرح يحيى مجموعة إقتراحات عملية وتطويرية من أبرزها "إعادة النظر في إدارة مسرح الجريمة وتكليف جهاز واحد بمهمة التحقيق كما في أرقى الدول مثل فرنسا حيث تتولى نيابة عامة للإرهاب وحدها التحقيق في كل جرائم الإرهاب".

الى ذلك يقترح يحيى أيضًا إجراء دورات تدريبية للعاملين في مسرح الجريمة (صليب أحمر، دفاع مدني، شرطة قضائية، مخابرات الجيش..) بإشراف قاض من النيابة العامة لحسن إستثمار الأدلة قبل زوالها. كما يشدّد على ضرورة متابعة "الضابطة العدلية المعاونة للنيابة العامة المختصة تدريب وتجهيزهم بشكل مستمرّ لمواكبة إستخدام المجرمين لأحدث التقنيات لتنفيذ جرائمهم.

إذًا إنطلاقًا من الأهمية المحورية لمسرح الجريمة وما يبديه عالِم الجريمة من تخصصية، قد يجد القاضي نفسه بحاجة الى علماء ومتخصّصين في هذا المجال يسهمون بحماية مسرح الجريمة وأدلّتها وبطبيعة الحال بالتعاون والتنسيق مع الأدلة الجنائية والأجهزة الأمنية المختصة، فمسرح الجريمة هو أساس كل تحقيق والمدخل إلى أي حقيقة والعبث به بشكل مباشر أو غير مباشر هو بمثابة العبث بمتانة التحقيق، وبالتالي فإن الحفاظ عليه هو "بقدسّية كشف الحقيقة".