هيئة التبليغ الديني في "الشيعي الأعلى": الرأي الآخر ممنوع

سطوة «الثنائي» على الطائفة الشيعية وداخلها ليست سرّاً يُكشف. وقرار الإدارة العامة للتبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الصادر قبل يومين لا يؤكّد إلّا المؤكّد، كما يقول العارفون. القرار قضى باعتبار خمس عشرة شخصية دينية شيعية غير مؤهّلة للقيام بالإرشاد والتوجيه مع إنذارها بخلع الزي الديني والمطالبة بتعميم القرار على المحاكم الشرعية الجعفرية للعمل به. والمندّدون يذهبون إلى أنه «لن يمرّ مرور الكرام». فإلى الحيثيات. 

رغم اعتبار المجلس أن ما صدر عن هيئة التبليغ الديني لا يُعبّر عنه وأن نائب رئيس المجلس لم يطلع عليه، بغضّ النظر عن مضمونه مع طلب التعامل معه وكأنه لم يصدر، إلّا أن ما يقف خلف القرار قد يكون أخطر من القرار نفسه. فهل تحوّل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى أداة يمكن تطويعها بهذا الشكل تغطية لممارسات فئوية لم تعد تخفى على أحد داخله؟ وهل يعكس التخبّط بين أبناء البيت الواحد صراعاً على رئاسة المجلس بين كل من حركة أمل و»حزب الله» كما هي الحال في ملفات كثيرة أخرى؟

إغتيال معنوي

البداية مع الشيخ ياسر عودة الذي تصدّر اسمه لائحة الأسماء «المغضوب عليها». فقد أشار في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أن الذين أصدروا القرار بحاجة لمن يشهد لهم بأهليّتهم وعلمهم وكفاءتهم، وأن هيئة التبليغ الديني بحاجة لمن يعترف ويقرّ بها. «إنهم يعيشون على الخرافة ويقتاتون من التخلّف ويستثمرون المناصب. أما ياسر عودة فيرفض الخرافات ويأبى أن يكون المذهب الشيعي بهذا الشكل من التخلّف، كما أنه يحارب الفاسدين من كل الطوائف وهذا ما يزعج السياسيين». ورغم أنه لم يتمّ استدعاؤه قبل صدور القرار، أعرب عن عدم استغرابه مما حصل مبدياً استعداده لمناظرة علنية بعيداً عن التلفيقات والروايات الكاذبة، مضيفاً: «منذ العام 2017 والحملات الكاذبة تُشنّ ضدّي من رئيس الهيئة ونائبه، ومنذ ذلك الحين وهم يطالبون بنزع عمامتي. لكن مع أو بدون عمامة سأبقى كما أنا، ولا أحد يستطيع أن يملك عقلي وحريّتي وفكري إلّا الذي خلقني عزّ وجلّ».

لكن كيف يفسّر بيان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي اعتبر أن القرار لا يُعبّر عنه؟ يجيب عودة بأن تدخّل بعض السياسيين لمنع حصول «هزة» داخل الطائفة الشيعية قد يكون السبب وراء ذلك، خاصة بعد نسبة التفاعل غير المتوقّعة التي شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي. «لكن آخر ما يعنيني هو المجلس ومن فيه رغم احترامي لبعض أعضائه. إنه مجلس محاصصات وتلزيمات ومؤسسة فاسدة كباقي مؤسسات الدولة، ولم أعتبره يوماً مرجعيتي. شهاداتي تكفيني ولست بحاجة إلى شهادتهم. فليصلحوا أنفسهم، ولو لم يكن لي دين، لكشفت ما يكفي من الملفات التي تدين الصغير والكبير بينهم، ولست أتكلّم هنا عن نائب رئيس المجلس»، كما يردف. عودة أكّد ختاماً أن الاعتدال وصوت الحقيقة أصبحا للأسف جريمة يحاسِب عليها الشرع والقانون، وأن هناك محاولات متكرّرة لاغتياله معنوياً تبدو واضحة من خلال كمية الحقد التي أبداها بعض أبناء الطائفة الذين يدّعون الإيمان. «شهادتي الحقيقية أخذتها من الأحرار من الشيعة ومن كافة الطوائف الأخرى، ولن أقبل بأقلّ من اعتذار علنيّ على ما بدر من الهيئة».

هيئات موازية

قرار هيئة التبليغ لا بدّ وأن يفتح الباب مجدّداً على واقع وقانونية بعض هيئات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. لمزيد من التفاصيل، تواصلنا مع المحامي نجيب فرحات الذي لفت إلى أن المشكلة الأساسية هي غياب الانتخابات عن المجلس منذ أكثر من أربعين سنة، وبالتالي لم تعد مؤسساته تمثّل الشعب. «إن واقع عمليات التمديد المتتالية وتعيين أشخاص يميلون إلى السلطة في مواقع القرار (رغم وجود أشخاص جديرين) نشأت عنه هيئات موازية للهيئات المنتخَبة قانوناً ومنها هيئة التبليغ الديني التي لم ينصّ عليها القانون ولا حتى النظام الداخلي للمجلس. رغم ذلك راحت تُصدر قرارات ليست من ضمن صلاحياتها في حين أن اللجان التي أنشأها القانون والنظام الداخلي من قضاة مدنيّين شيعة مغيّبة تماماً عن عملها، للأسف».

من منظار القراءة القانونية، رأى فرحات أن القرار يُعتبر صادراً عن جهة غير مختصة وغير موافقة للأصول. وأشاد بما قام به نائب رئيس المجلس، الشيخ علي الخطيب، من ناحية الإعلان عن أن القرار لم يصدر عنه، رغم أنه هو من يمثّل المجلس رسمياً تجاه الدولة وباقي السلطات. يُذكر هنا أن الخطيب استلم رئاسة المجلس بحكم تصريف الأعمال بعد وفاة رئيسه السابق، الشيخ عبد الأمير قبلان، في أيلول 2021 بانتظار إجراء انتخابات. وبسبب عدم الاتفاق السياسي بين طرفَي الثنائي على التعيينات داخل المجلس، يستمر الخطيب بتصريف الأعمال. في هذا السياق، يضيف فرحات: «لا شك أن تدخّل رئيس المجلس والقيام بالدور الذي منحه إياه القانون وضع الأمور على السكة الصحيحة من حيث تحديد الصلاحيات التي تجاوزتها الهيئة، وأتمنى أن يستمرّ بممارسة هذا الدور مستقبلاً».

نحو المواجهة؟

نكمل مع فرحات ونسأل عمّا حمله القرار من رسائل مبطّنة. فيردّ بأن البيان يصل بمضمونه إلى حدّ تكفير الشخصيات الدينية المشمولة. فمن يملك هذا الحق أساساً؟ «كلّ من يخالف رأي مسؤولي الهيئة الديني أو يتبع مرجعية أخرى يؤخَذ قرار تجريده من صلاحياته الدينية. فجميعنا نشهد لبعض الأسماء المذكورة بعِلمها واحترامها وموقعها الاجتماعي، غير أن ذنبها الوحيد هو قول كلمة الحق والإضاءة على وجع الناس». غياب محاسبة المرتكبين تحت غطاء سياسي، من جهة، وسياسة كمّ الأفواه لكلّ من يحاول التأثير في المجتمع، من جهة أخرى، حوّلا الأنظار عن فضائح وارتكابات بالجملة داخل المجلس. وثمة كلام كثير يُحكى عن بيع أوقاف واستيراد مواد مختلفة على اسم المجلس، والتستّر على أحد رجال الدين الذين صدر بحقّهم حكم قضائي في قضية تحرّش امتنعت هيئة التبليغ الديني عن تنفيذه.

على أي حال، السؤال الأبرز يتمحور حول إمكانية تنفيذ القرار بعد بيان رئيس المجلس من عدمه. في هذا الخصوص يوضح فرحات أنه طُلب تعميم القرار على المحاكم الشرعية الجعفرية رغم أنه يفترض بالأخيرة ألّا تتلقى أي مراسلة إلّا عبر رئيس المجلس. غير أن رئيس هيئة التبليغ الديني، الشيخ عبد الحليم شرارة، هو مستشار في المحكمة الشرعية العليا وبالتالي له نفوذه. كما أن رئيس المحكمة الشرعية العليا هو عضو حكمي في هيئة التبليغ الديني. فما المانع من التنفيذ إذاً؟ «في حال قرّرت المحاكم الأخذ بالقرار فسنكون أمام انقسام حادّ بين قضاة الشرع. وكرجال قانون، سنلجأ إلى مجلس شورى الدولة واضعين أنفسنا، زملائي وأنا، بتصرّف أي رجل دين تعرّض لقرار تعسّفي. أؤكد أن هذا القرار «ما بيقطع» لأنه مخالف لأبسط البديهيات وأتمنى عدم دفْعنا للذهاب إلى مواجهات لا معنى لها وأن يزنوا الأمور بميزان العقل وليس بميزان الكيدية والانتقام. أما إذا أرادوها إصراراً وتنكيلاً، فلن يرفّ لنا جفن».

أزمة داخلية

سياسياً، وصف الباحث القانوني والناشط السياسي، الدكتور علي مراد، في حديث لـ»نداء الوطن» القرار بأنه إدانة بحقّ من أصدره لأنه يُعبّر عن أزمتين: الأولى ستعكس الأزمة السياسية العامة التي تعاني منها الشيعية السياسية حيث أصبح واضحاً أن الثنائي غير قادر على تَحمّل الرأي الآخر رغم فائض القوة الذي يدّعيه، محاولاً بذلك إسكات أي صوت معترض إما بالترغيب أو الترهيب أو أكثر. أما الثانية فإدارية داخلية حيث أشار مراد إلى أن بيان المجلس معيبٌ كونه أضاء حصراً على عدم تبليغ رئاسته بقرار إحدى هيئاته. «نحن اليوم نتحدث عن الشيخ عودة، أحد أبرز رجال الدين الشيعة المعترضين حالياً على أداء الثنائي. فهل يكون الردّ على قرار إسقاط عمامته ببيان يظهر وكأن ما حصل خطأ إداري؟ المطلوب إصدار بيان بسحب القرار واعتباره بحُكم الملغى».

مراد شدّد على ضرورة أن يجد المجلس حلّاً لمأزقه السياسي ولخلافاته الداخلية. لكن المشكلة الحقيقية تتمثّل في مستوى التعبئة التي تمارَس من قِبَل من يمسك بقرار الطائفة عبر خطابات تخوينية لا يمكن أن يتبرّأ من تَبِعاتها من هم متهّمون بالتعرّض لأي ناشط أو رجل دين معارض للثنائي. فبعض الأسماء المطروحة على «لائحة العقوبات» هي من واجهت جماعات تابعة لحزب الله علناً في بنت جبيل مؤخراً خلال مراسم عزاء أحد أبنائها، متحدّية قراراً بمنع حضور أي شيخ للمشاركة في الصلاة على من «خالفهم بالرأي سياسياً» - وحضرت رغم التهديدات. «كلّنا يدرك موازين القوى الحالية لكن التاريخ يشهد أن هذه الموازين، حتى داخل الطائفة الشيعية، يمكن أن تكون أكثر هشاشة مما يتخيّل البعض. ليت المجلس يعمل لحلّ فضيحة سِنّ الحضانة التي تطال التاريخ الفقهي والاجتهادي للشيعة بدلاً من الانجراف وراء خطابات تخوينية اتهامية لرجال دين»، كما ينهي مراد.

ترهّل كامل

نتوجّه ختاماً إلى الكاتب والناشط السياسي مصطفى فحص. يخبرنا بأن هناك ترهّلاً كاملاً داخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بعد رحيل رئيسه الأسبق، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، إذ أصبح أسير واقع سيطرةٍ وتقاسمٍ بين طرفَي الثنائي. فكما هي الحال في أي مؤسسة خاصة أو عامة يدخلانها، يقومان بإفراغها من النخب والكفاءات واستبدالها بأشخاص معيارهم الوحيد الولاء، وهذا ما لم يحدث في التاريخ الشيعي لا المرجعي ولا حتى الرسمي، بحسب فحص. «هناك تكهنات تشي بصراع على زعامة المجلس بين الأقطاب الداخلية للمؤسسة الدينية الشيعية المدعومة من الثنائي. وقد يكون الصراع هذا تبلور في القرار الصادر قبل يومين. نسأل لمن تخضع هيئة التبليغ ولِمَ هذا الردّ المستهجن من رئاسة المجلس بإنكار الإمضاء دون التطرّق إلى مضمون القرار؟».

فحص يتابع أنه بعد وفاة الشيخ شمس الدين، لم تعد القيمة المرجوّة من المجلس الشيعي موجودة، لأنه لم يعد مستقلاً بل خاضعاً ويتمّ التعاطي معه من قِبَل الثنائي كإحدى أدواته المستخدمة في نزاعاته السياسية داخل الجمهورية اللبنانية. نسأله أخيراً إن كان هذا التعاطي يعكس صورة الطائفة الشيعية الحقيقية، فيقول: «يمثّل الثنائي الأغلبية الشيعية وبالتالي يعكس وجهُ الثنائي وجهَ الأغلبية التي يمثّلها. جمهور الثنائي هو من اختار نوابه، والمجلس الشيعي هو انعكاس للثنائي، أي انعكاس للطائفة الشيعية بأكملها».