المصدر: نداء الوطن
الكاتب: داود رمال
الجمعة 15 آب 2025 07:31:33
تشهد الساحة اللبنانية في هذه المرحلة الدقيقة زخمًا سياسيًا ودبلوماسيًا استثنائيًا، بفعل القرارات الحكومية الأخيرة التي وُصفت بالمفصلية، وفي مقدمها تثبيت مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، إلى جانب التمسك بالتنسيق مع الجانب الأميركي لتطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائية والقرار الدولي 1701 بكل مندرجاته. هذه القرارات، التي جاءت بعد سنوات من النقاشات والمراوحة، تضع البلاد أمام فرصة لإعادة رسم معادلة القوة والسيادة، وتثبيت موقعها التفاوضي على المستويين الإقليمي والدولي.
في قلب هذا المسار، برزت "الورقة اللبنانية"، التي أقرّها مجلس الوزراء في المبادئ الأساسية، وليس كما يدعي البعض أنها ورقة أميركية، والتي أُنجزت بعد أكثر من خمسين ساعة من العمل المضني داخل لجنة خاصة ضمت ممثلين عن أركان الدولة الدستوريين الثلاثة، والتي لم تكن مجرد نص تفاوضي، بل وثيقة متكاملة تسعى إلى حماية الحقوق اللبنانية في أكثر من ملف. فهي من جهة، تضع أسسًا لضمان حقوق لبنان على الحدود الجنوبية وإيجاد حل سيادي لكل ما يتصل بإسرائيل، ومن جهة ثانية، تحفظ الحقوق المرتبطة بالحدود مع سوريا، فضلًا عن تضمينها بنودًا تتصل بمرحلة إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي، وهو ما يعكس رؤية شاملة تربط الأمن بالإنماء، والسيادة بالتنمية المستدامة.
الأهمية الكبرى لهذه الورقة تتجلى في البند الختامي الذي أُضيف بقرار رئاسي، والذي ينص على أن المذكرة لا تدخل حيّز التنفيذ إلا بعد موافقة كل من إسرائيل وسوريا عليها. هذا البند لم يطرأ عليه أي تعديل منذ إدراجه، ويُعدّ بمثابة صمام أمان يمنع أي طرف من تنفيذ ما يناسبه وإهمال ما لا يخدم مصالحه، ويؤكد مبدأ التزامن والتوازي في الجدولة والتنفيذ، بحيث لا يشرع طرف بخطوات ميدانية قبل أن يقوم الطرف الآخر بالمثل. ومن هذا المنطلق، فإن أي رفض لهذه المذكرة من طرف لبناني داخلي ("حزب الله")، لا سيما إذا كان مدفوعًا بحسابات سياسية ضيقة، يُعتبر في جوهره خدمة مجانية لإسرائيل، إذ يعفيها من أي التزامات، ويمكّنها من تقديم نفسها أمام الأميركيين على أنها التزمت بينما لبنان هو من عرقل، ما يمنحها "براءة ذمة" سياسية ودبلوماسية.
ورغم هذا التعثر الجزئي، فإن المسار لم يتوقف. التواصل مستمر مع مختلف الأطراف المعنية، والجيش اللبناني يضع حاليًا خطة تنفيذية تتماشى مع مضمون المذكرة، بما يضمن انسجامها مع قرارات الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة وضبط الحدود الجنوبية والشرقية - الشمالية، وتطبيق القرار 1701 على الأرض. هذه الخطة من المنتظر أن تشكل حجر الأساس لمرحلة جديدة من العمل الأمني الميداني، المترافق مع تحركات دبلوماسية نشطة لتأمين الغطاء الدولي والدعم اللوجستي والمالي.
وفي موازاة هذه الجهود، تشهد بيروت حركة لافتة للموفدين الدوليين والإقليميين، بما يعكس حجم الاهتمام الخارجي بالوضع اللبناني والتطورات على حدوده. فقد افتتح رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني هذه الجولة من الاتصالات واللقاءات، لينتقل بعدها الدور إلى الموفد الأميركي توم برّاك ترافقه المسؤولة السابقة عن الملف اللبناني مورغان أورتاغوس، قبل أن يحط في العاصمة اللبنانية الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، وفي ظل مواكبة عربية متواصلة لا سيما من قبل المملكة العربية السعودية. وتكشف هذه الزيارات المتلاحقة أن الملف اللبناني عاد ليتصدر أجندة العواصم المؤثرة، في ظل إدراك متزايد بأن أي خلل في الاستقرار اللبناني قد تكون له انعكاسات إقليمية واسعة.
الموقف اللبناني الذي يحمله المسؤولون إلى هؤلاء الموفدين بات واضح المعالم: انفتاح على التعاون والشراكة والصداقة مع مختلف الدول، ولكن تحت سقف السيادة الكاملة، ووفق مبدأ أن أي علاقة يجب أن تتم مع الدولة اللبنانية، وأي دعم أو مساعدة ينبغي أن يمرا عبر مؤسساتها الشرعية، وهذا خلاصة ما أسمع للاريجاني، هذه الصيغة، التي تُعدّ ترجمة عملية لمفهوم "الندية" في العلاقات الدولية، تهدف إلى منع أي قنوات موازية أو مسارات جانبية يمكن أن تنتقص من سيادة القرار الوطني أو تعيد إنتاج واقع تعدد السلطات والسلاح.
بهذا المعنى، يحاول لبنان أن يوازن بين حاجته إلى الدعم الدولي لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وبين رغبته في الحفاظ على استقلالية قراره ومنع أي تدخلات تمس جوهر سيادته. وهو توازن دقيق يتطلب إدارة حذرة وحكمة سياسية، خاصة في لحظة إقليمية مضطربة تتشابك فيها الملفات من غزة إلى جنوب لبنان مرورًا بسوريا والعراق.
إن نجاح "الورقة اللبنانية" في أن تصبح إطارًا معتمدًا دوليًا سيعني تثبيت حقوق لبنان في الملفات الحدودية والسياسية والاقتصادية، كما سيعزز موقعه التفاوضي أمام أي محاولات لفرض تسويات مجتزأة أو ضغوط سياسية واقتصادية. أما فشلها، فقد يفتح الباب أمام سيناريوات أكثر تعقيدًا، ليس أقلها العودة إلى دوامة الاشتباك الميداني والاستنزاف الدبلوماسي. وفي الحالتين، يبقى وضوح الموقف اللبناني وتمسكه بحصرية السلاح وتطبيق القرار 1701 ضمن سيادته الكاملة، مؤشرًا إلى أن بيروت تسعى هذه المرة إلى الإمساك بزمام المبادرة، لا الاكتفاء بردود الفعل على ما يُفرض عليها من الخارج.