يعجبني جاري

جاري الذي أكاد لا أراه في حيّنا، ألمحه كلّ صباح عائدًا من فرن بعيد، سيرًا على الأقدام، متأبّطًا ربطة خبز. ينتظر مع المنتظرين في صفّ طويل، الصفّ موجود حتّى لو غابت الأزمة. لا بأس. لا داعي لفهم هذه المعادلة: هناك أزمة خبز، إذًا هناك طوابير. لا أزمة، طوابير أيضًا. المهمّ جاري الآن.
يعجبني عزمه وإصراره اليوميان لتأمين قوت عائلته خبزًا. أُطلبِ الخبز أينما كان. وأتساءل في أيّ ساعة تنتهي ربطة الخبز يا ترى؟ أو عساها لا تنتهي، ولكنّه يذهب في كلّ يوم تحسّبًا لغد لا خبز فيه.
جميل أنّني أراه وهو لا يراني. أختلس النظر إليه في جوار الخبز، ظافرًا بربطته بعد معركة حاسمة مع طامعين، مثله، بلقمة عيش تكون خبزًا حصرًا؛ وعائدًا ليأكل وعائلته، ما جناه من عرق جبينه.
تخيّل معي لو أنّه عاد، بعد كلّ هذه "النطرة" خالي الوفاض، ماذا ستقول زوجته؟ يا له من فاشل لم يستطع أن يسدّ رمق أولاده. غيره "أشطر" منه، يعرف من أين تؤكل الكتف، أمّا هو فينتظر سدى ولا "يطحش" مع "الطاحشين". لا يتقن أصول المعركة، أصول انتزاع لقمة العيش. الحمدلله جاري محارب من الطراز الرفيع، ما لمحته مرّة إلاّ وفي يده ربطة خبز.
يعجبني جاري. وحين أقول يعجبني لا أقصد أنّه يعجبني. كنت أمزح فقط. ما أعنيه أنّه يستفزّني. يستفزّني بغدواته الباكرة. يستفزّني بكون همومه، أو واحد منها على الأقلّ، يُختزل بالخبز. يستفزّني أن أبدأ نهاري "متصبّحة" بوجهه وبطنه المليء بالخبز وغيره.
لا يعجبني جاري. ينفجر ضاحكًا من دون أدنى سبب. إذا سألته كيف حاله، وأنا لا أكترث لحاله أصلاً، يضحك. ولكم غيّرت طريقي حين رأيته من بعيد تجنّبًا للاستفزاز الّذي تولّده رؤيته. أمّا إذا وقعت الواقعة، وكنت أمامه وجهًا لوجه، ولا مفرّ، فكنت ألقي باللوم على التوقيت السّيّئ والحظّ الأسوأ.
لعلّ أكثر ما يستفزّني فيه هو أنّه كلّما رأيته، والآن كلّما لمحته، حتّى لو كانت الحرارة صفرًا والعاصفة هوجاء، فهو لا يلبس إلاّ قميصًا، قميصًا مشدودة. هل تكفيه هذه القميص للدفء؟ هل كونها ضيّقة ومشدودة حدّ التمزّق، يحصر الدفء؟ هل يعقل أنّها للفصول كلّها؟ في الشتاء تدفئ، وفي الصيف تُبرد؟ وأتساءل لماذا لا يلبس كنزة أو أيّ دليل حسّيّ على أنّنا في الشتاء؟ ربّما ليست القميص. ربّما هو على دفء دائم. ربّما انتفى منه وفيه شعور البرد. أيعقل أنّه لا يشعر بالبرد لكنّه يشعر بالجوع لذا يجلب الخبز؟ هل هو الخبز مصدر دفئه؟
وأعود إلى الحيّ. لا أرى جاري وهذا أفضل لي. من الأفضل رؤيته بطلاً يتكمّش بغنيمته، ربطته، على رؤيته عاطلاً عن العمل، مسالمًا، في استراحة المحارب.