الهويّة حلمٌ معلّق بفحص الـ DNA: حق تعطّله الكلفة

شاع الحديث في الآونة الأخيرة عن فحص الـ DNA لإثبات البنوّة أو الأبوّة حتى كاد يتحوّل إلى مزحة؛ إنّما في الحقيقة فحص الحمض النووي أداة قانونية حاسمة لإعادة الحياة إلى من فقدوها على الورق وصاروا خارج قيود النفوس. أكثر من مجرّد خيار إنسانيّ، عاطفيّ أو طبّيّ، فحص الـ DNA ضرورة تتطلّبها العدالة وحقوق الإنسان ويفرضها الإصرار على ربط القيد ببيولوجية النسب لإعادة الحق إلى أصحابه وهو يعبر من خلال القضاء والمختبرات الطبية. لكن في لبنان هذا الأمر دونه صعوبات مالية تعرقل العملية بغير وجه حق.

في دراسة بحثية قانونية أعدّتها جمعية روّاد الحقوق التي تعنى بقضايا مكتومي القيد تحت عنوان "جنسية قيد القضاء" تبيّن أن هناك أكثر من 50000 شخص يعيشون على الأراضي اللبنانية ولا يحملون جنسية أية دولة وبالتالي ينطبق عليهم تعريف عديمي الجنسية. أسباب كثيرة تقف خلف هذه الظاهرة ولكن ما يهمّنا منها في هذا التحقيق سعي البعض إلى إثبات قيدهم أو قيد أولادهم عبر المحاكم ليتمكّنوا من الحصول على هوية لبنانية وما يواجهونه من عراقيل لا سيّما بالنسبة إلى فحص الحمض النووي الذي صار مطلوباً من قبل المحاكم كإثبات حاسم بعد أن كان خياراً في السابق يضاف إلى تقارير المحاكم الشرعية.

بلا هوية: قيد النفوس يحتاج قيداً بيولوجياً

أسباب كثيرة تمنع بعض اللبنانيين لا سيّما في الأطراف من الاستحصال على شهادة ولادة ومن ثم تسجيل مواليدهم في دوائر النفوس للاستحصال على هوية، بخاصة أن القانون اللبناني يمنح فترة سنة لتسجيل المواليد وإلّا احتاج تسجيلهم بعد ذلك إلى اللجوء إلى المحاكم وإقامة دعوى قيد، الأمر الذي يستصعبه الكثيرون بسبب الإجراءات القانونية والبيروقراطية المعقّدة والكلفة المادية التي يتطلّبها. عدم تسجيل الأولاد قد يمتدّ إلى جيلين أو أكثر أحياناً فيكون الأهل بدورهم غير مسجلين في دوائر النفوس الأمر الذي يجعل إثبات النسب أكثر صعوبة. إذاً، عدم تسجيل الأبناء قد يحدث لقلة وعي وجهل في القوانين والإجراءات أو لكون الأهل يعيشون في مناطق محرومة من الخدمات الإدارية أو على الحدود اللبنانية السورية الأمر الذي يجعل علاقتهم بالوطن ضعيفة، وقد يكون ذلك بسبب الهجرة وعدم تسجيل الأولاد في سفارات لبنان في الخارج.

إضافة إلى هذه الأسباب، قد يكون الأطفال من زيجات غير مسجّلة رسميّاً، سواء بسبب الانتماء إلى طوائف مختلفة أو بسبب تبديل الرجال دينهم لعقد زواج ثانٍ في وقت لا يسمح دينهم الأساسي بتعدّد الزوجات، أو بسبب الزواج من امرأة مكتومة القيد أو من أجنبية تقيم بشكل غير نظامي، أو نتيجة زواج ديني غير مُوثّق في الدولة أو نتيجة علاقات خارج إطار الزواج، كذلك هناك الأبناء غير المسجّلين بسبب الخلافات الزوجية.

كيف أصبح الـ DNA حاسماً في دعاوى القيد؟

بلا هوية يعني عدم التواجد رسمياً على قيد الحياة. ولكن تعقيدات كثيرة تواجه الذين يبحثون عن الحصول على هوية حيث ينبغي التقدم بدعوى قيد لتسجيل الولادة ومنذ العام 2012 باتت المحاكم التي تنظر في هذه القضايا تطلب إجراء فحص الـ DNA كدليل علمي قاطع لتثبيت النسب.

.في بداية دعاوى القيد، يطلب القاضي في قرار إعدادي من طالبي القيد إجراء فحوصات الـ DNA لإثبات النسب مع الوالد، لأن الأساس في هذه الدعاوى هو إثبات النسب البيولوجي للأب. في حال كانت الأم هي من تقدّمت بالدعوى – وهذا يحصل في حالات استثنائية – سيكون الفحص مع الأب أيضاً، أما فحص الأم فيكون حسب قرار القاضي إذا رأى حاجة له أو إذا كان هو يعتمده بشكل منهجي، وقد يمتدّ بخط مستقيم من الأب إلى الجد ويمكن أن يكون مع العم في حال وفاة الأب...

الإشكالية التي تتحدث عنها جمعية روّاد الحقوق في إطار سعيها لتقديم المساعدة إلى كل من يعمل على إثبات قيده تكمن في الكلفة غير الموحدة التي تفرضها المختبرات من جهة وكلفة انتقال الكاتب التي يفرضها القاضي وهي أيضاً غير موحدة ولا تخضع لمعايير واضحة. وكاتب المحكمة يفترض تواجده عند إجراء الفحص للتثبت من صحته ومن ثم الإتيان بالنتيجة في ظرف مختوم. وقد بات انتقال الكاتب يكلف ما بين 20 إلى 40 مليون ليرة لبنانية في حين أن الكاتب يقوم بالتنقلات ضمن دوام عمله الذي ينال عنه راتباً. وفي حال أقرّ القاضي المنفرد تكليف كاتب ورئيس قلم تتضاعف كلفة الانتقال. ويتحمّل الأهل الذين رفعوا الدعوى كلفة انتقال الكاتب التي باتت تفوق قدرتهم لا سيّما أن معظمهم من الفئات الفقيرة غير القادرة على تحمّل هذه الكلفة الباهظة التي تضاف إلى كلفة الفحص ذاته خاصة حين يجرى لأكثر من ولد. ولا تنكر جمعية روّاد الحقوق أن ثمة محاكم قليلة العدد تكون فيها كلفة انتقال الكاتب ما بين 5 و 7 ملايين ليرة. والمعضلة هنا أنه في حال عدم قدرة الأهل على دفع هذه التكاليف تجمد الدعوى وقد تتوقف لذلك تسعى الجمعية إلى مساعدة هذه الحالات مادياً وقانونياً.

وغالباً ما يتمّ الدفع للكاتب قبل التوجه إلى المختبر فيما هو يجمع الملفات لأكثر من عائلة ليصل يومه في بعض الأحيان إلى 60 مليون ليرة. والجدير ذكره أن هذا الرسم ليس وارداً ضمن الرسوم القضائية بل بقرار من القاضي.

مختبرات محدودة ورسوم متفاوتة

أما بالنسبة إلى المختبرات فثمة عدد قليل من المختبرات المرخصة معتمدة من قبل المحاكم يحق لها إجراء فحص الحمض النووي لهذه الحالات ومنها مختبران في الشمال وواحد في الأشرفية وآخر في الجنوب فيما مختبر مستشفى رفيق الحريري الحكومي متوقف حالياً. أما مختبر الجامعة اليسوعية فهو الأغلى وغالباً ما تعيّنه محكمة البداية وليس القاضي المنفرد. وتبلغ كلفة فحص الـ DNA للفرد الواحد 120$ وقد تصل إلى 150$ في بعض المختبرات. والمفارقة أن أكثر المناطق التي يتم فيها رفع دعاوى قيد هي الشمال والبقاع لكن لا مختبرات لإجراء هذا الفحص في البقاع ما يفرض على الأشخاص القدوم إلى بيروت لإجرائه مع ما يتطلبه ذلك من كلفة إضافية على عائلات معدمة. وتتصاعد الكلفة إذا كان عدد الأولاد كبيراً وكلهم يحتاجون إلى قيد ولادة متأخر كونهم غير مسجلين؛ كما تتفاقم الأمور في الحالات غير الاعتيادية كأن يكون الوالد أو الوالدة في السجن مثلاً حينها يتطلب الفحص إجراءات قانونية تزيد من الكلفة والأعباء المالية كطلب سوق السجين إلى المختبر أو إرسال ممرض إلى السجن. والحال نفسه إذا كان الوالد متوفياً حيث يجب إجراء الفحص مع العم أو الجد وكلّما بعدت صلة القرابة ازدادت كلفة الفحص لتبلغ مثلاً مع الجد 300$. وثمة دعاوى قد تمتدّ إلى جيلين وهنا تصبح الكلفة باهظة.

.الشرعي يرفض الحمض النووي والمدني يعتمده

لكن قبل تقديم دعوى النفوس لا بدّ أن يخضع الطلب لمسار قانوني حيث يجب أن يكون لدى المتقدّم بالدعوى حكم إثبات نسب الأب من المحاكم الشرعية أو المذهبية كون البنوّة في القانون اللبناني تخضع لهذه المحاكم (أما إثبات النسب من المحاكم الروحية فليس إلزامياً، وعادة ما يتمّ تقديم شهادات معمودية) ولا تعتمد المحاكم الشرعية فحص الحمض النووي لإثبات البنوّة ولا تعترف به كوسيلة إثبات، بل تعتمد الإقرار المبني على القواعد الشرعية، فيما المحاكم الروحية المسيحية تطلبه في بعض الحالات فقط، حيث يكون هناك نزاعات.

والسؤال هنا لماذا ازدواجية النظام؟ فإما أن يكون هناك حكم نسب شرعي أو روحي ويكون الاعتماد على المحاكم الدينية وعلى إثباتها للبنوّة، وإما تقوم المحكمة المدنية بإثباتها في سياق دعوى القيد. لماذا لا تلغى واحدة منهما؟

ويطرح موضوع إثبات القيد عدداً من الإشكاليات منها القانونية والإنسانية بالنسبة لأشخاص تتوقف حياتهم ومستقبلهم عليه. فلم لا تكون الروابط العائلية مثلاً أقوى من الروابط البيولوجية؟ فإذا قبل الأب مثلاً بتسجيل ابن يقوم بتربيته على أنه ابن له هل يمكن لفحص الحمض النووي عرقلة مسار تسجيل الطفل؟ وماذا لو قام أحدهم بشراء ولد وسجّله قبل مرور سنة على الولادة عندها لا يحتاج لأي فحص ويكون قادراً على تسجيل ولد ليس من صلبه دون أية إشكاليات قانونية لا سيّما أن القانون لا يطلب هذه الفحوصات قبل عمر السنة؟ ويبقى السؤال الأهم هل في لبنان بنك DNA ليكون مرجعاً لهذه الحالات وللأجيال المقبلة؟

 

متى القانون؟

أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في هذا الإطار وقد تقدّمت جمعية روّاد الحقوق التي تعنى بقضايا مكتومي القيد بعدة توجيهات إلى وزارتي الصحة والعدل للمطالبة بتوحيد أسعار الفحص والكتاب وجعلها معقولة أو أن تتم تغطية كلفة الفحص من قبل الوزارات أو الجهات الضامنة أو حتى المحاكم وتسهيل الأمور للأشخاص الذين تتوقف حياتهم على هذه الإجراءات بدل تحميلهم المزيد من الأعباء. ولكن يبقى الحل الأفعل إقرار قانون "التسجيل المدني للأحوال الشخصية" الذي قدّم في العام 2021 وفي حال إقراره لا يعود هناك من حاجة لدعاوى قيد وبالتالي لفحوصات لأنه يعتمد الربط المؤسّساتي والتسجيل الفوري من دون الاتكال على مبادرة الأفراد للشروع بمعاملات التصريح بالولادة وتسجيلها وبالتالي يحلّ الكثير من المشاكل المتعلّقة بالقيد والهوية.