المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
الثلاثاء 19 آب 2025 09:16:18
في قلب منطقة غوسطا في كسروان، يرتفع جبل الرحمة كرمز حي لتجربة روحية عميقة تتناغم فيها الطبيعة العذراء مع أجواء القداسة والتقوى. هناك على تلك التلة الهادئة المطلة على خليج جونية تحتضن الجبال تمثالًا عظيمًا ليسوع المسيح مجسدًا الرحمة الإلهية تحيط به مجموعة من المزارات والكنائس الصغيرة المبنية من صخور تلك الأرض. زيارة جبل الرحمة ليست مجرد رحلة سياحية، فهنا وسط الطبيعة المسكونة بالهدوء والصفاء يجد الزائر ملاذًا هادئًا بعيدًا من صخب الحياة، يعزز فيه صلته بالله ويشعر بحضور الرحمة الإلهية المطمئنة والمبلسمة للجراح.
فكرة بسيطة كانت وراء هذا المشروع الطموح، انطلقت من سعي الكاهنين، جان خليفة وجان عقيقي، اللذين أرادا من خلالها تمجيد الرحمة الإلهية ولا يزالان يتساءلان حتى اليوم إن كان هذا مشروعهما أم مشروع الرب الإله الذي سلك طريقه إلى التنفيذ عبرهما وجعلهما أداة طيعة بين يديه. بداية أراد الأب خليفة إنشاء مزار للسيدة العذراء "أم المنسيين" لكن أحد الآباء كان قد رأى تمثالًا صغيرًا للرحمة الإلهية عند والدته فوق الباب، فنشأت فكرة تشييد مزار للرحمة الإلهية في المنطقة الواقعة بين غوسطا وبطحا. المشروع كان صعبًا للغاية ماديًا ولوجستيًا إنما مشيئة الرب كانت أقوى من كل العقبات .
الأب جان عقيقي المرسل اللبناني في جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، كان أحد الكاهنين اللذين عملا على المشروع. وبشغف يشرح عن مفهوم الرحمة الإلهية ويروي أن يسوع المسيح ظهر على الراهبة فروستينا، وهي من راهبات المحبة، متشحًا بالأبيض مع يد تبارك ويد تشير إلى القلب الذي ينطلق منه شعاعان بالأبيض والأحمر أو الدم و الماء رمزًا للفداء والخلاص. وطلب يسوع إلى فروستينا أن ترسمه كما هو وتكتب "يا يسوع إني أثق بك . أيها الدم و الماء المتدفقان من قلب يسوع كينبوع للرحمة الإلهية إني أثق بكما". وأخبرها يسوع أنه كل يوم في الساعة الثالثة ستفيض رحمته على البشرية وسيكون رحمة للنفوس المطهرية والمنازعة. الراهبة فروستينا روت كل ما رأته في كتاب . وفي العام 2000 أُعلنت فروستينا قديسة الرحمة الإلهية وصنع تكريمًا لهذا الحدث 20 تمثالًا صغيرًا وأعلن الأحد الأول بعد عيد الفصح عيد الرحمة الإلهية.
رحلة إنشاء مزار للرحمة الإلهية لم تكن سهلة وفق ما يقول الأب جان عقيقي، وتم البحث بداية عن تلة في البترون لتحتضن التمثال المنتظر، لكن بعد ذلك انتقل البحث في محيط دير الكريم أو دير المخلص، وهو الدير الأم لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في غوسطا. "أثناء بحثنا في الأحراج يقول الأب عقيقي وجدنا كنيسة قديمة مخفية بين الأشجار، نظفنا الحرج من حولها وشذبنا الأشجار رغم حملة شائعات طالتنا من الأهالي، لكن المشكلة كمنت في أن تقبل الرهبنة ومطرانية صربا بهذا المشروع. لكننا بدأنا في العام 2015 وكنا ننتظر إشارة من السماء إلى أن أعلن البابا فرنسيس سنة 2017 سنة الرحمة الإلهية فكانت تلك الإشارة المنتظرة".
انطلقت رحلة تجسيد الرحمة الإلهية وأريد للمزار أن يكون واحة للصلاة والتعرف إلى المسيح من خلال الأرض والجبل، ومثل حبة الخردل أخذ المشروع طريقه إلى التنفيذ عبر مساعدات وتبرعات من داخل لبنان. وأُسمي "جبل الرحمة" نظرًا إلى رمزية الجبل في الإيمان المسيحي، فيسوع كان يصطحب تلاميذه إلى الجبل ويصلي على الجبل وهناك تجلى. "أردنا أن يلتقي الناس بالمسيح على الجبل ليصبحوا بدورهم مرسلين ينقلون إلى العالم الاختبار الذي عاشوه على الجبل في هذا المكان"... النحات ميشال عواد قام بتنفيذ تمثال المسيح والمهندس جوزيف عبدالله أشرف على المنشآت ومعه المهندس دوري شمعون. في العام 2017 وضع القسم الأول من التمثال على القاعدة وفي 2018 في عيد الرحمة الإلهية اكتمل القسم العلوي من التمثال .
"أردنا أن يكون التمثال محاطاً بالمياه التي ترمز إلى شعاع الماء الذي خرج من قلب يسوع، وعند حفر القاعدة اكتشفنا نبعة ماء طبيعية فكانت تلك إشارة جديدة من الرب تواكب وتبارك المشروع . ويرتفع التمثال 12 متراً على أرض تبلغ مساحتها 12000 متر وهو يستدير حسب مواعيد القداديس المتعددة، لكن نظره يبقى دائمًا موجهًا نحو الإنسان ليدرك هذا الأخير أن نظرة الرحمة ترافقه حيثما كان. تحت القاعدة كنيسة للقديسة فروستينا تضم 12 عمودًا مضاءً وقد ركزنا على رمزية الرقم 12 الذي يرمز إلى رسل المسيح".
من يزر "جبل الرحمة" يشعر وكأنه يحلق بين الأرض والسماء. رهبة، سكينة وخشوع قل إيجادها في مزارات دينية أخرى اجتاحتها السياحة والتجارة وصخب الناس. هنا كل ركن يتضوع قداسة وتقوى وتتوزع فيه كنائس صغيرة تمتلئ خشوعًا وتتآلف مع الطبيعة. كنيسة الرحمة الإلهية التي تشبه الكرة الأرضية يرتفع في وسطها القربان محور الكون، كنيسة الأم تريزا شفيعة المرسلين اللبنانيين الموارنة في مكتب المنسيين. كنيسة مار بطرس وبولس عمودي الكنيسة وقد انشئت على عهد الرئيس جوزيف عون ليكون عهده عهد سلام وأمل. كنيسة الصليب في قلب الطبيعة مفتوحة على السماء لا تحدّها جدران، مفتوحة على البحر لتكون كاتدرائية لله.
حيثما خطونا في هذه المساحة الساكنة نجد تمثالًا لقديس نركع أمامه ونستكين لحضوره الهادئ وسط الأشجار وبين الصخور. تمثال لمار شربل وساحة للأم تريزا وركن للقديسة رفقا. كلهم شفعاء جبل الرحمة يحوّلون الأرض واحة صلاة تصلي معهم ليسوع.
عند قدمي التمثال نقف بين الجبل والبحر، ننظر إلى الأعلى نحو السماء تشدنا نظرة تتجه برحمتها صوبنا تخاطبنا بصمت فلا يسعنا إلا أن نشعر بصغر الإنسان أمام عظمة الرحمة الإلهية .
على خارطة السياحة الدينية
"جبل الرحمة" أدرج مؤخرًا على خارطة السياحية الدينية في لبنان وصار مقصدًا للزوار الذين يتخطى عددهم خمسة أو ستة آلاف زائر أيام السبت والأحد وربما يتم ربطه في الغد القريب بدرب السماء التي باتت مسارًا مرسومًا للمؤمنين نحو سيدة لبنان. لكن رغم روعة المكان والمناظر الآسرة التي يطل عليها لا يزال ملجأً للصلاة والتعبد ولا يزال الجبل المحيط به بكرًا خاليًا من البناء، ملك لدير الكريم، الذي تجند آباؤه لخدمة جبل الرحمة والدير الأثري وما يتبع له من مؤسسات إنسانية. الأعمال لا تنتهي والأفكار تتوالد كل يوم ومن بينها شق طريق آخر لجبل الرحمة يجعل الوصول إليه أسهل وسيتم كما أخبرنا الأب جان عقيقي توزيع مراحل الرحمة الإلهية السبع على طول الطريق المؤدي إلى الجبل لترافق المؤمنين وتكون مراحل للتأمل في مسيرة الإيمان نحو يسوع القائل: "تعالوا إليّ أيها المتعبون وأنا أريحكم". أما النشاطات الرعوية فكثيرة، من مسيرات صلاة ووقفات تأمل ومحاضرات روحية في البيت الحجري القديم وكل ذلك بمرافقة من التراتيل التي يصدح بها صوت الأب جان عقيقي فيما المردود يخصص قسم منه لمساعدة "المنسيين" الذين تحتضنهم جمعية المرسلين.
غادرنا جبل الرحمة بوسيلة النقل العامة نفسها التي بها وصلنا إليه من دير المخلص، لكننا لم نغادره أبدًا كما وصلنا، فالمكان ليس لحظات تأمل آنية نعيشها ونتركها خلفنا حين نعود إلى حياتنا اليومية، بل هو رسالة رحمة ومحبة وخدمة نحملها معنا كما يحملها المرسلون اللبنانيون من جبل الرحمة إلى لبنان والعالم.
دير الكريم بين الأمس واليوم
دير الكريم دير تاريخي أثري بني فوق قلعة رومانية على إحدى تلال غوسطا المطلة على البحر وتحضنه الجبال. في العام 1708 وهب الشيخ صقر الخازن الأرض التي كانت وقفًا لآل الخازن لثلاث راهبات أرمنيات أردن إنشاء دير هناك. وفي سنة 1733 اكتمل بناء الدير . في العام 1865 قام الخوري يوحنا الحبيب بشراء الدير من الأرمن واشترى الأملاك المجاورة وأسس رهبنة المرسلين اللبنانيين، وصار الدير حينها مقرًا للرئاسة العامة وأول دير للجمعية . وتم ترميم الدير على مراحل، وبنيت كنيسته الجديدة التي حملت اسم مار يوحنا الحبيب خلال ترؤس الأب إيلي ماضي للجمعية فيما كنيسة المخلص القديمة بقيت أثرية تضم أيقونات من القرن السادس عشر حصل عليها الآباء من الراهبات الأرمنيات. وأصبح الدير الجديد الذي بني في العام 2013 مخصصًا للكهنة المبتدئين مع مدرسة وأمكنة للنوم. واليوم يشهد الدير مشروعًا جديدًا حيث سيتم استخدامه كمقر لعلاج المدمنين على المخدرات يضم 60 غرفة ويقدم لهؤلاء المتعبين علاجًا روحيًا وجسديًا.