أيّ هواجس تقلق بكركي من التفاوض "المشبوه"؟

لعلها المرة الأولى التي ترفع فيها بكركي مستوى التصعيد في خطابها السياسي منذ فترة طويلة، رغم العظات الشديدة اللهجة لسيدها مع صباح كل أحد، عندما تناولت ملف الحدود البرية، موجّهة تحذيراً غير مسبوق من المفاوضات المتصلة بالحدود اللبنانية مع إسرائيل، طارحة الملف من زاويتين تحملان دلالات فائقة الأهمية، أسقطت في الأولى شرعية أي مفاوضات يمكن أن تقوم بها الدولة في غياب رئيس الجمهورية، وشككت في الثانية في ما وصفته بالترسيم المشبوه للحدود.

ففي البيان الشهري للمطارنة الموارنة الذي ترأسه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أول من أمس، تحذير من المحاولات الجارية، دولياً ومحلياً، "لتمرير ترسيم مشبوه للحدود بين لبنان وإسرائيل، خالٍ من أي ضمانات دولية واضحة وثابتة، لافتين إلى أن التفاوض في هذا الشأن يبقى من اختصاص رئيس الجمهورية وأن يتم من خارج رعايته وموافقته باطل ولاغٍ".

أثار البيان مجموعة من التساؤلات من حيث التوقيت والمضمون، لجهة ما إن كان تحذير بكركي ينطلق من معطيات تملكها حيال مسار التفاوض، أم أن التحذير لا يعدو كونه استباقياً نتيجة هواجس الصرح من مسألتين أساسيتين، أولاهما تتصل بموقع رئاسة الجمهورية ودور الرئيس في إدارة أي تفاوض، كما جاء في الدستور، ولا سيما في مادته ٥٢، التي تنص على أن "رئيس الجمهورية يتولى التفاوض في عقد المعاهدات الدولية، وإبرامها مع رئيس الحكومة (…)"، وذلك على نحو يكرّس تهميش الموقع المسيحي الأول ويغيّبه عن ممارسة صلاحياته ودوره في مثل هذا الاستحقاق، فيما تنحو المسألة الثانية في اتجاه قلق بكركي من أي مقايضة يجري العمل عليها بين ملف الحدود والرئاسة، بحيث يسجّل أيضاً تغييب وتهميش الحق المسيحي في اختيار الرئيس وتسميته، كما هو حاصل منذ انتهاء ولاية الرئيس الأسبق ميشال عون.

وفي كلتا الحالين، أي في حال وجود معطيات أو في حال التحذير المسبق، تتمسك بكركي اليوم وأكثر من أي وقت مضى في حقها في رفع الصوت عالياً والتحذير من مغبة مسار التهميش المسيحي، خصوصاً بعدما لمست في حركة الحج الدولية للموفدين الدبلوماسيين تغييباً للموقع المسيحي، حيث تقتصر الزيارات الرسمية للموفدين على رئاستي المجلس والحكومة. وقد يكون ذلك مبرراً بروتوكولياً في ظل شغور موقع الرئاسة، ولكنه غير مبرر في استبعاد بعض المواقع في القيادات المسيحية التي من شأنها أن تملأ شيئاً من الفراغ، وإن لم يكن في شكل رسمي، لكنه يتيح على الأقل للموفدين الدوليين الاستماع إلى وجهة النظر المسيحية من الملفات المطروحة، خصوصاً ملف الرئاسة الذي يعني الشارع المسيحي قبل كل شيء.

بدا واضحاً من بيان المطارنة أن الرسالة ليست إلى الداخل فقط، أي إلى الحكومة التي ستتولى بموجب الدستور إبرام أي اتفاق أو معاهدة دولية، بفعل دور رئيس الحكومة إلى جانب رئيس الجمهورية من جهة، ودور مجلس الوزراء مجتمعاً في تولي صلاحيات الرئيس في حال الشغور، أو إلى الحزب الذي يتفرد اليوم بقرار التفاوض في المقعد الخلفي للحكومة، بل تستهدف الخارج أيضاً الذي يسعى إلى إنجاز مفاوضات ليس للمسيحيين فيها أي كلمة، حتى لو كان هذا الملف في يد صاحب النفوذ والقرار، أي "حزب الله" الطرف الرئيسي في المواجهة مع إسرائيل على الحدود، وصاحب الكلمة الأخيرة في الحل هناك. ولعل المقصود اليوم وإن في شكل غير مباشر الولايات المتحدة التي أوفد رئيسها كبير مستشاريه آموس هوكشتاين لإدارة ملف تثبيت الحدود، وهو يواصل مهمته بعيداً عن الإعلام ويعد الاتفاق ليكون جاهزاً عندما يحين وقت وقف الصواريخ والجلوس على الطاولة. ولعل هذا ما يفسر لجوء بكركي إلى الكلام عن "ترسيم مشبوه"، باعتبار أن الحكومة لا تقود التفاوض، كما أنه لا كلام علنياً عن مفاوضات جارية، بل وساطة مكوكية أميركية بين بيروت وتل أبيب، محصورة بنودها وشروطها بين الاسرائيليين من جهة والحزب ومن يدور في فلكه من الحلفاء من جهة أخرى. ولا يبدو حتى الآن أن للجيش وقيادته أي دور، كما يُفترض أن تجري الأمور، من خلال اللجنة الثلاثية بالرعاية الأممية، لأن ما يحصل ليس ترسيماً بل تثبيت لحدود معتدى عليها إسرائيلياً ولكن معترف بها دولياً ومسجلة في الأمم المتحدة!

تدرك بكركي أنها ليست في الموقع الذي يتيح لها التغيير في المعادلات الجارية، باعتبار أنها مرجعية روحية للطائفة المارونية، ولكنها في ظل غياب المرجعية المارونية الأعلى المكلفة تولي هذه المسؤولية تسعى إلى ملء فراغ أفرزه تعطيل انتخاب الرئيس والتشتت بين الزعامات المسيحية. وهي بذلك، ترمي من وراء رفع الصوت إلى ممارسة أقصى درجات الضغط من أجل تقديم أولوية انتخاب الرئيس على ملف المفاوضات، على نحو يتيح إنجاز الاستحقاق، بحيث يتولى الرئيس المنتخب إدارة التفاوض والتوقيع إلى جانب رئيس حكومة غير مستقيلة، تماماً كما حصل عند توقيع اتفاقية الترسيم البحري إبان عهد الرئيس الأسبق ميشال عون.