المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الأحد 20 تموز 2025 14:29:16
الدخول إلى مغارة جعيتا أشبه بالدخول إلى أسطورة. إنها لحظة اندهاش صافية. فهي ليست مجرّد مشهد طبيعي مبهر لكتل صخرية تكونت عبر ملايين السنين، بل سيرة محفورة بالماء والزمن، وحكاية تحوّلت من تكوين جيولوجي إلى أيقونة وطنية.
بعد ثمانية أشهر من الإقفال، استعادت مغارة جعيتا نبضها. الموقع الطبيعي الأيقوني في قلب كسروان، الذي ظلّ مطوّقًا بالصمت منذ وفاة نبيل حداد، مدير شركة "ماباس" التي تولّت تشغيله منذ 1993، أعاد فتح أبوابه أمام الزوار اعتبارًا من 15 تموز، في مشهد يشبه القيامة السياحية. أما الافتتاح الرسمي، فمن المنتظر أن يجري في 21 تموز، برعاية رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، ممثّلًا بوزيرة السياحة لورا الخازن.
منذ اليوم الأول للافتتاح توافد أكثر من 1500 شخص من جنسيات مختلفة. سائح عراقي كان يعتقد أن هذه المشاهد "موجودة في المسلسلات فقط"، وسيدتان أردنيتان تقولان إنها "واحدة من عجائب الدنيا"، وشابة أسترالية اختصرت الأمر بكلمتين: "رائع، خيالي".
عادت المغارة، وعادت معها الصور التي ظنّها كثيرون من الماضي: كتل صخرية متدلية من سقف المغارة بأحجام مختلفة لا تُقاس، تشكلت على مر العصور من الترسبات الكلسية، وقاعات نحتها الماء بإصرار وجمال، وضوء خافت يمرّ من بين الشقوق كأنه دعوة للدخول. المكان نفسه الذي كان يستقبل نحو 250 ألف زائر سنويًا بين 2014 و2024، ينهض اليوم بنَفَسٍ جديد، وإدارة جديدة.
اتفاق رضائي لإطلاق المغارة مجدداً
لم تكن إعادة مغارة جعيتا إلى الواجهة مهمة سهلة. فالاتفاق الذي أُبرم بين وزارة السياحة وبلدية جعيتا جاء بعد أشهر من المفاوضات، أخذٍ وردّ، وفتور أحيانًا. لكنه انتهى باتفاق رضائي، استناداً إلى المادة 46 من قانون الشراء العام، ما أتاح للبلدية أن تتولى مؤقتًا إدارة المغارة وتشغيلها، إلى حين إعداد دفتر شروط وإطلاق مناقصة دولية شفافة، يما يفتح الباب أمام تلزيم جديد طال انتظاره.
ومنذ توقيع الاتفاق، تحركت البلدية بسرعة. بدأت بأعمال الصيانة الأساسية، شملت إعادة تشغيل التلفريك، صيانة الإنارة وتنظيف المسارات. ثم تطورت الأعمال نحو تحديث المرافق: شاشات عرض جديدة، تجهيزات تقنية متقدمة، وتطوير لآليات التصوير، بإشراف شركة متخصصة. كما خضع فريق العمل لدورات تدريبية، لا تتعلّق فقط بالجوانب التقنية، بل بكيفية التعامل مع الزوار، وتقديم تجربة سياحية شاملة، تحفظ للمغارة هيبتها، وتمنح السائح لحظة انبهار لا تُنسى.
من جهة الإيرادات، أعلن رئيس بلدية جعيتا وليد بارود في تصريحه لـ"المدن"، أن العقد الجديد ينصّ على توزيع المداخيل بنسبة 60% للبلدية و40% لخزينة وزارة السياحة. وهي صيغة تضمن الحد الأدنى من التوازن المالي.
أما الدخول إلى المغارة، فمشروط بتسعيرة موحّدة: 15 دولارًا للكبار، و9 دولارات للصغار. تسعيرة قد يراها البعض مرتفعة، لكنها بحسب البلدية ضرورية لتغطية كلفة التشغيل، مع السعي إلى الحفاظ على الطابع الشعبي للمكان.
لحظة اندهاش صافية
في جولتنا داخل الطبقة العلوية من المغارة، بدا واضحًا أن الزوّار لا يأتون فقط لمشاهدة التكوينات الصخرية المتدلية والهوابط العملاقة، بل لعيش لحظة اندهاش صافية. وجوه مذهولة، ضحكات مكتومة، وعيون تلمع بدهشة لا تصدق. الناس مبتهجة، بعضهم زار المكان في سنوات سابقة ويعود إليه وكأنه يسترجع جزءًا من ذاكرته، وآخرون تطأ أقدامهم المغارة للمرة الأولى، كمن يدخل إلى أسطورة. إنها علاقة أُعيد وصلها بعد انقطاع، مع أحد أبهى المعالم الطبيعية في لبنان، وربما في المنطقة بأسرها.
هذه العودة، وإن جاءت متأخرة، إلا أنها تحمل أكثر من دلالة: أن جعيتا ليست مغارة من حجر فقط، بل حجر زاوية في الذاكرة السياحية والوجدانية للبنانيين، تستحق أن تُدار بعين الرؤية.
ليست مغارة جعيتا مجرّد مشهد طبيعي مبهر، بل سيرة محفورة بالماء والزمن، حكاية تحوّلت من تكوين جيولوجي إلى أيقونة وطنية تتوالى عليها الجوائز والاعترافات الدولية. فمنذ بداية الألفية، بدأ العالم يلتفت إلى هذا الكهف اللبناني الفريد: في عام 2002، نالت جائزة قمة السياحة المستدامة الأوروبية في جنيف، ثم توّجت في العام التالي بجائزة من القمة السياحية الخامسة في شامونيكس الفرنسية، باسم شركة "ماباس" المشغّلة للمغارة. وفي 2013، مُنحت وسام الاستحقاق الذهبي من دبي، كأفضل معلم سياحي في العالم العربي. أما في المحطات العالمية، فقد كانت جعيتا المنافس العربي الوحيد الذي بلغ التصفيات النهائية في مسابقة "عجائب الطبيعة السبع الجديدة"، حين اختيرت من بين مئات المواقع لتكون واحدة من 28 مرشحًا نهائيًا، والكهف الوحيد ضمن القائمة. جوائز وشهادات كثيرة توالت أيضًا: من "سوكلين" إلى الاتحاد العربي للموسيقيين، وصولًا إلى جائزة البيئة الدولية من جمعية السفر الألمانية، وكأن المغارة لم تكن تفتح أبوابها للسياح فقط، بل كانت تشارك باسم لبنان في كل محفل حضاري.
لكن وراء هذه الأوسمة، تكمن قصة أعمق: فجعيتا ليست مجرد عرض للصخور، بل كائنٌ حيّ، شُكّل بهدوء وبُطء عبر ملايين السنين، حيث تولّى الماء مهمة النحت، حافرًا غرفًا شاهقة من الأحجار الكلسية، تاركًا للزمن مهمة صقل التفاصيل. تتكوّن المغارة من طبقتين: العلوية الجافة، بطول 2200 متر، ممراتها شاهقة وتشكيلاتها أخّاذة، والسفلية المائية، بطول يصل إلى 7800 متر مع تفرّعاتها، وهي مجرى فرعي لنهر الكلب، يرفد بيروت بمياه الشفة.
نهر الكلب وأصل التسمية
في العمق أيضًا، اسم "جعيتا" ليس بلا دلالة. فالقرية التي تحتضن هذا الموقع الخرافي استمدت اسمها من هدير الماء، إذ كان أهالي المنطقة يسمعون في فصل الربيع هدير نهر الكلب يخرج من جوف المغارة كصوتٍ لا يُقاوم، فيغمر المكان حتى يسود الصمت. من هنا جاء الاسم، جعيتا: أي "صوت الماء القوي" بالسريانية.
واليوم، بعد كل هذه السنين من التشغيل والإغلاق، من العقود والتأجيلات، تعود جعيتا إلى الواجهة. لكن الرهان الجديد لا يكمن فقط في عدد الزوار أو الإيرادات، بل في تحويل هذا الكنز الطبيعي إلى مساحة وطنية حقيقية، لا ضحية إدارة متعثّرة ولا رهينة مناقصات مؤجلة. أن تُصبح المغارة، كما هي في أصل تكوينها، مكانًا مشتركًا، يدخل إليه الزائر فيكتشف فيه ما يتجاوز الطبيعة، إلى فكرة الانتماء.