إنتخابات بيروت: فَتْق بعد كلّ رَتْق

المعتاد في مناقشة شؤون البلاد واستحقاقاتها أنّه كلّما أمكن رَتْق مشكلة نجم عنه فتْق جديد. وهكذا دواليك. لا الحلّ النهائي متوافر، ولا التسويات المؤقّتة تفضي إلى دوامها وضمان استقرارها. هي أيضاً حال الجولة الثالثة من الانتخابات المحلّية في بيروت التي يدور من حولها سجال مربك يمتحن في آن السلطات الرسمية والمزاج الشعبي: لا يكفي تلك إنجاح حصول الانتخابات الدوريّة بلا ضمان يحفظ الاستقرار الاجتماعي، وليس ثمّة ما يحقّق استمرار ذاك على ما درج عليه تقليديّاً.  

أعادت الجولة الأولى من الانتخابات البلدية والاختيارية في جبل لبنان العافية إلى الاستحقاقات الانتخابية وضمنت استرجاع دوريّتها الملزمة في القوانين. ذلك ما يفترض أن ينعكس على الانتخابات النيابية العامّة في مثل هذا الشهر من السنة المقبلة. أعادت الجولة الأولى العافية إلى مقدرة السلطات الرسمية على الاضطلاع بدورها في حفظ الأمن في امتحان الأحد الفائت، ومقدرتها على ضبط شأن لا يقلّ أهمّية عن استحقاق السنة المقبلة، وهو تنازع العائلات والأجباب من داخلها على السيطرة على إدارة مناطقها وبلداتها في نطاق تنافس تقليدي. ذلك جلّ ما هو متوقّع من انتخابات محلّية في الغالب تستدرج العائلات الأحزاب إليها كي تخوض معارك البيوت فيما بينها، بحدّ أدنى من التناحر السياسي.

ما أدّت إليه جولة جبل لبنان الأحد المنصرم، والشمال هذا الأحد، ثمّ بعد أسبوعين الجنوب والبقاع، يختلف تماماً عمّا ينتظر جولة بيروت في الأحد الذي يلي.

إشكاليّة المناصفة

إلى الساعات الأخيرة، وإن لا يزال الوقت متاحاً بعد ومبكّراً على التوقّعات، ليس ثمّة ما يبدو قاطعاً حيال ما يراد أن تنتهي إليه انتخابات العاصمة. والمقصود بذلك ضمان أن يتوزّع أعضاؤها الـ24 مناصفة بين المسلمين والمسيحيّين. يتوالى إعلان اللوائح والإدلاء بالمواقف المطمئنة، وأحياناً المتشكّكة، دونما التيقّن من الوصول إلى المناصفة بالفعل.

في ما يحوط بانتخاب مجلس بلديّة بيروت من معطيات:

  • أوّلها أنّ مجلس الوزراء لا يقارب الحذَرَيْن السياسي والشعبي من هذا الاستحقاق. لم يُناقشهما على طاولته بعد. المؤكّد الوحيد أن رئيسَيْ الجمهوريّة والحكومة مصرّان على انتخابات بيروت في موعدها. في المقابل ليس ثمّة ما يُنبىء بفرضيّة تأجيلها، حتّى الآن على الأقلّ، في حال ثبت الإخلال بالتوازن التقليدي في مجلس بلديّة بيروت بانتخاب أعضائه جميعاً من المسلمين، أو الانتقاص على نحو جزئيّ أو فادح من المناصفة.

ما يُقَرّ به في أوساط مجلس الوزراء ووزارة الداخلية ذات الاختصاص في إجرائها أنّهما لا يملكان سوى تقديم التطمينات الكافية إلى حصول الاقتراع في ظلّ أمن مستقرّ ومستتبّ واحترام قواعد التصويت وتسهيل التدابير القانونية. لكنّ أيّاً منهما لن يسعه، ولا حتّى أن يفرض، جرّ الناخبين إلى صناديق الاقتراع أو إملاء خيارات عليهم لضمان فوز مرشّحين. لا يملك مجلس الوزراء تالياً منع الإخلال بالمناصفة، ولا إلغاء نتائج انتخابات غير مرضية. لكنّ الأهمّ أنّه يصعب الطعن في نتائج كهذه من جرّاء مزاج شعبي قد لا يراعي عُرفاً راج لسنوات طويلة، وهو المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين في المجلس البلدي لبيروت غير المنصوص عليها في قانون البلديّات. تالياً لا منطق يبرّر الطعن في الإرادة الشخصيّة للناخبين وخياراتهم.

صلاحيّات المحافظ

  • ثانيها، بفعل القانون النافذ للانتخاب القائم على الاحتساب الأكثريّ، يصبح التشطيب عاملاً فعليّاً وربّما يكون طبيعياً ومقبولاً باعتماد اللائحة المفتوحة. أضف أنّه مألوف في تاريخ الانتخابات النيابية والمحلّية وتقاليدها (في ظلّ القانون الأكثريّ) ما دام يفسح في المجال أمام المقترع إطلاق حرّيّته في التصويت للائحة بكاملها أو لجزء أو أكثر منها أو تركيب لائحته الخاصّة. ليس المرشّحون المسيحيون وحدهم يذهبون ضحيّة التشطيب، وعددهم 12، بل والمرشّح الدرزي الوحيد في المجلس البلدي، وربّما أحد المرشّحين الشيعة الثلاثة.

لم يُثَر الأمر فيما مضى في العاصمة لعدم اقترانه بموجة مفتعلة من إثارة الشكوك والانقسام السياسي كي يبلغ أبواب الانتخابات المحلّية، المفترض أنّها لا تعكس توازنات سياسية كالانتخابات النيابية العامّة، بل نوع من الإدارة المشتركة للمكوّنات الطائفية والمذهبية لشؤون العاصمة وحاجاتها ومتطلّباتها وتطويرها.

  • ثالثها، لم يسبق في أيّ من مرّات إجراء انتخابات بلديّة لبيروت أن اقترن موعدها بمطلب لا صلة مباشرة له بها، وهو صلاحيّات المحافظ. ليست المرّة الأولى التي يُشتكى في الطائفة السنّية، باعتبارها ترأس المجلس البلدي وتملك فيه ثمانية مقاعد، من صلاحيّات المحافظ في مقابل ما تعتبره تآكل اختصاصات المجلس البلدي ووضع السياسة التنفيذية في يد ذاك. نوقش هذان الاعتراض والتحفّظ في أوقات لا صلة لها بالموعد الدوريّ للانتخابات دونما أن يُعالجا فظلّا معلّقين بعدما أدّيا بدورهما إلى استدراج مشكلة فوق مشكلة: إضعاف صلاحيّات المحافظ يُغضب مرجعيّته الأرثوذكسية ومقدار الشكوى من واقع صلاحيّات المجلس البلدي يغضب مرجعيّته السنّية. بذلك انتقل السجال من مناصب الإدارة إلى داخل المذاهب والطوائف.

في الاستحقاق الحالي، دونما سابق إنذار وفي توقيت ملتبس، طُرحت إعادة النظر في صلاحيّات المحافظ إلى حدّ طرح معادلة اشترطت، للقبول بالمناصفة وتكريسها في المجلس البلدي، تقليص صلاحيّات المحافظ على نحو قاعدة “رابح ـ رابح”.

نهاية الزعامة العابرة للمناطق

  • رابعها، قد يكون عاملاً مهمّاً في نشوء الاضطراب والاشتباك الدائر حول انتخابات بيروت، وهو افتقار العاصمة إلى مرجعية يُحتكم إليها. بسبب نهاية زمن الزعامة العابرة للمناطق أُفلت الزمام لتأليف لوائح عدّة لا يملك أيّ منها مقدرة على فرض المناصفة التقليدية، فيما يراد منها اختبار قوّة توطئةً للانتخابات النيابية في السنة المقبلة، على الرغم من الفارق الجوهري بين كلتيهما، سواء في قياس المزاج الشعبي أو مواقع الأحزاب والقوى وتدخّلها فيها أو آليّة الاقتراع. ضاعف في وطأة السجال الأخير ظهور الشارع السنّيّ في مكان، ونوّابه ووجوهه المشتّتين في أكثر من اتّجاه في مكان آخر.