احتياطي مصرف لبنان ارتفع 430 مليون دولار: ايرادات كبيرة وشراء سلس للدولار مدماكان معززان

فيما لم يتوقف مصرف لبنان عن شفط السيولة بالليرة من السوق وتقليص التضخم، كان لافتاً نجاحه في شراء ما أمكنه من دولارات وإضافتها الى احتياطاته، بسلاسة وهدوء دون تعكير السوق والمحافظة على برودتها. فالإعلان عن ارتفاع 430 مليون دولار في احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية (9,003 مليارات دولار، ارتفاعاً من 8,573 مليارات دولار في 31 تموز الماضي)، في هذه المرحلة الوطنية الحرجة جداً، هو من دون أدنى شك إنجاز مالي ونقدي واقتصادي، سيمنح اللبنانيين الأمل والثقة بقدرة البنك المركزي على ضبط لعبة المضاربات وكبح جماح التفلت في سعر صرف الليرة.

اللافت أيضاً هو دخول جبايات الدولة ورسومها في تعزيز الاحتياطات بالعملة الصعبة، بعدما "دولرت" الدولة بعض الرسوم والضرائب، حيث كان لإيرادات المطار والمرفأ بالدولار دور إيجابي في نموّ الاحتياط بالأجنبي.

عاملان أساسيان اليوم لا يمكن القفز فوقهما لتحديد مسار ومدة الاستقرار لسعر الصرف. الأول أن أقل من 53 ألف مليار ليرة حالياً هو حجم الكتلة النقدية بالليرة في السوق بعد انخفاضها نحو 10 آلاف مليار منذ نيسان الماضي، ما يقلص قدرة المضاربين على تحريك السوق، ويمنح مصرف لبنان الوقت لاستيعاب أي صدمات مستجدة. والثاني هو الهامش الدولاري الذي بات مصرف لبنان يملكه، ويعطيه القدرة والقوة على التدخل في السوق شارياً أو بائعاً، وتالياً الإمساك بحركة "التسعير" وبنسب التضخم.

عامل آخر أساسي ومهم في تنامي احتياطات مصرف لبنان، تأتى من الثقافة الجديدة التي أرساها #وسيم منصوري في التعامل مع الدولة ومطالباتها المستمرة بالتمويل، والتي تقوم على رفض المس بالاحتياطي الدولاري تحت أي ذريعة، وإلزام الدولة الاكتفاء بالصرف من موجوداتها وجباياتها فقط، وهو ما قطع الطريق عليها أكثر من مرة، ومنعها من مدّ يدها مجدداً الى بقايا الاحتياط.

 

بيد أنه مع استمرار مصرف لبنان بدفع رواتب وأجور القطاع العام والمتقاعدين بالدولار، وتالياً ضخ المزيد من الدولارات في السوق، والارتفاع الملحوظ اليوم في احتياطاته بالعملة الصعبة، تؤكد مصادر مالية أن "استمرار الاستقرار الحالي نقدياً ومالياً وترسيخه، بات رهن الظروف الخارجة عن إرادة اللبنانيين ومصرفهم المركزي، وما قد يطرأ من توترات أمنية وعسكرية في غزة أو في الجنوب، وتالياً المطلوب المزيد من التفاهم السياسي الداخلي، وتسريع إقرار القوانين ذات الصلة، اللذان يزيدان من فرصة تحصين الوضع النقدي والاقتصادي، وتالياً وضع الحجر الأساس لإعادة إطلاق عملية الإنقاذ".

ماذا في تفاصيل العوامل التي أسهمت بارتفاع احتياط مصرف لبنان؟ مصادر متابعة تؤكد أن ارتفاع الاحتياطي جاء عبر مسارين: الأول هو شراء "المركزي" دولارات من السوق، والمسار الثاني، وإن بنسبة أقل، هو من إيرادات الدولة مثل مرفأ ومطار بيروت، فيما يرجح أن بعضها ناتج أيضاً عن الفارق في أسعار اليورو، إذ من المعلوم أن جزءاً من الاحتياطي في مصرف لبنان هو باليورو الذي كانت قيمته 1.05 دولار، فيما وصل اليوم الى 1.1 دولار بارتفاع نحو 5%، وتالياً فإن فارق اليورو مع ما تم شراؤه من دولارات يمكن أن يكون السبب في ارتفاع احتياطي مصرف لبنان.

ولا تنفي المصادر أن قسماً من الأموال التي وُضعت في الاحتياطي يعود للدولة، وقسماً آخر يعود لمصرف لبنان بغية التدخل في سوق القطع إذا تطلّب الأمر ذلك، فمهمة مصرف لبنان إدارة السياسة النقدية. ولكن التوازن بين الجانبين برأيها هو الذي سيحافظ على الاستقرار، علماً بأن كل التزامات الدولة التي تطلبها وزارة المال من مصرف لبنان بالدولار تُلبّى فوراً.

ووفق معلومات "النهار" فإن إيرادات الدولة بالعملة الوطنية بدأت بالارتفاع منذ أيار الماضي عشرات الأضعاف مقارنة بأول السنة على خلفية ارتفاع الدولار الجمركي وبعض التدابير التي اتخذتها وزارة المال. بعض هذه المبالغ خصّصها مصرف لبنان لشراء دولارات من السوق بشكل تدريجي ومن دون أن يؤثر أبداً على السوق، وجزء آخر خُصّص لرواتب القطاع العام بالدولار (قيمة الرواتب للقطاع العام والأجور في آب وأيلول وتشرين الأول نحو 200 مليون دولار)، ووزراة التربية (16 مليون دولار للأساتذة)، وبعض حاجات الجيش، أما الجزء الباقي فقد أصبح فعلياً ضمن احتياطات مصرف لبنان.

وترى المصادر عينها أن أهمية هذه الخطوات عدا عن كونها مالية مهمة، ثمة إيجابية معنوية، بما يعني أنه رغم كل أزمات لبنان السياسية والاقتصادية والأمنية والحرب جنوباً والإقليم المتأزم، يستطيع المركزي أن يضبط الاستقرار ويمنع المس بالاحتياطي الإلزامي أو الودائع، وفي الوقت عينه يخفض التضخم بالليرة ويجمع الدولار.

الى ذلك، رجحت معلومات "النهار" أنه "إذا استمرت وتيرة جمع الدولارات على هذا النحو في الأشهر المقبلة، فثمة توجّه لدى الحاكم، الى شراء ذهب بقيمة هذه المبالغ".

وفيما يعود الارتفاع في إيرادات الدولة الى السياسة النقدية التي يعتمدها مصرف لبنان أخيراً، وأسهمت بنجاحها السياسة المالية التي اعتمدتها وزارة المال منذ بداية عام 2023 بالتعاون مع مصرف لبنان، تؤكد المصادر أن الإنجاز الأهم هو في كيفية جمع مبالغ بالعملة الصعبة في وقت استطاع فيه "المركزي" خفض النقد بالتداول الى أقل من 53 تريليون ليرة من نحو 61 تريليون ليرة عندما تسلم منصوري مهام الحاكمية في أول آب الماضي. توازياً، أكدت مصادر أخرى أن ما أسهم بخفض الكتلة النقدية عاملان: الأول هو التعميم 165 (يسمح بعمليات التسوية الإلكترونية العائدة الى الأموال النقدية ويهدف الى تنظيم العمل بالشيكات النقدية وفتح حسابات جديدة بالدولار الأميركي والليرة اللبنانية من أجل استخدامها لتسوية التحاويل المصرفية والإلكترونية الخاصة بالأموال النقدية وتسوية مقاصّة الشيكات). والعامل الثاني هو إيرادات الخزينة التي ارتفعت كثيراً خصوصاً الجزء النقدي منها الذي انتقل من بضعة مليارات في أول السنة الى ألوف المليارات حالياً.

وفي تفاصيل الأرقام، بلغت إيرادات الخزينة أكثر من 180 ألف مليار ليرة من أول السنة حتى اليوم بينها نحو 90 ألف مليار ليرة "كاش". أما إيرادات الدولة "الكاش" من شهر آب حتى منتصف تشرين الثاني فبلغت نحو 55 ألف مليار ليرة، أي نحو 610 ملايين دولار. كما حققت الدولة من آب حتى منتصف تشرين الثاني (3 أشهر ونصف الشهر) إيرادات غير نقدية (شيكات وتحاويل مصرفية) أيضاً بنحو 55 ألف مليار ليرة، أما إيرادات الدولة بالفريش دولار فتقدر بمعدل 25 مليون دولار "كاش" شهرياً، غالبيتها من رسوم بطاقات السفر (رسوم المغادرة)، وبعض الرسوم من مرفأ بيروت.