استحقاقات ماليّة واقتصادية معلّقة في حضرة الفراغ

ابتداءً من اليوم، ستنتقل البلاد إلى مرحلة تُزاوج ما بين الفراغ في سدّة الرئاسة، وتسليم السلطة التنفيذيّة لحكومة تصريف أعمال. من حيث المبدأ، لا يوجد ما يمنع استمرار حكومة تصريف الأعمال بالمناقشات الجارية مع صندوق النقد، وهو ما جرى بالفعل في نيويورك منذ بضعة أسابيع، طالما أنّ المحادثات تتم من خلال فريق عمل وزاري يعمل بعيدًا عن الأضواء، وبمعزل عن ضوضاء الخلافات السياسيّة. لكن من الأكيد في الوقت نفسه، أنّ حالة الفراغ القائمة اليوم ستحول دون تنفيذ العديد من الإلتزامات التي قدّمها لبنان للصندوق والمجتمع الدولي خلال الفترة الماضية، بل وستفرمل إمكانيّة توقيع الاتفاق النهائي في حال تنفيذ هذه الإلتزامات.

بهذا المعنى، كل ما سيملكه لبنان اليوم، هو إمكانيّة تحديث خطّة التعافي والتفاهم المبدئي مع صندوق النقد، وربما استكمال بعض المسارات التشريعيّة داخل اللجان النيابيّة. إلا أن تنفيذ الخطّة نفسها سيكون متعذّرًا، بانتظار انتخاب الرئيس وتشكيل حكومة تملك الصلاحيّات التنفيذيّة الكاملة.

موازنة العام 2023
في بداية شهر نيسان من هذا العام، نصّ التفاهم على مستوى الموظّفين مع صندوق النقد على إقرار موازنة للعام 2022، كأحد الشروط المطلوبة من لبنان. لكن بعد تأخّر المجلس النيابي في مناقشة هذه الموازنة، عاد الصندوق وأكّد في بيانه الأخير أن التركيز يفترض أن ينتقل إلى مناقشة موازنة العام 2023، خصوصًا أن موازنة العام الحالي لم تُنشر في الجريدة الرسميّة حتّى اللحظة، في حين أن نحو 10 أشهر من أصل 12 قد مرّت من هذه السنة.

من حيث الشكل، تشير رئاسة الحكومة إلى أنّها تتابع مع وزير الماليّة العمل على موازنة العام المقبل. إلا أنّ صياغة هذه الموازنة يتطلّب تجاوز جميع الوزارات والإدارات الرسميّة، لتحديد سقوف اعتمادات الإنفاق وتقديرات الجباية. وبهذا المعنى، وفي حال قرّر وزراء التيار الوطني الحر عرقلة عمل الحكومة كما هو متوقّع، بسبب الخلاف على حدود تصريفها للأعمال، سيكون من المتعذّر إنجاز صيغة نهائيّة لهذه الموازنة، ناهيك عن الإشكاليّات التي ستحيط باجتماع الحكومة لإقرار الموازنة كمشروع قانون. مع الإشارة إلى أنّ تأمين نصاب هذا النوع من الجلسات غير مضمون حتّى اللحظة.

استراتيجيّة إعادة هيكلة الدين العام
كان من المفترض أن تعمل حكومة ميقاتي منذ تشكيلها على مسار إعادة هيكلة الدين العام، الذي يمر حتمًا بعمليّة بدء التفاوض مع الدائنين، بعد تحديدهم بشكل دقيق. لكن كما هو معلوم، لم تعمد الحكومة حتّى إلى تشكيل الوفد الذي يفترض أن يطلق عمليّة التفاوض، رغم اشتراط التفاهم مع صندوق النقد الدولي وضع استراتيجيّة حكوميّة لإعادة هيكلة هذا الدين. وكما هو واضح، لن تملك حكومة تصريف الأعمال قدرة تشكيل وفد يملك هذه الصلاحيّة الحسّاسة، ولا حتّى إقرار استراتيجيّة بهذه الأهميّة، مع كل ما يستلزمه هذا الأمر من صياغة مراسيم لتشريعات يفترض أن يوافق عليها المجلس النيابي لاحقًا. بصورة أوضح، هذا الجانب من شروط صندوق النقد لن يُنفّذ حتمًا في ظل الفراغ الرئاسة وحكومة تصريف الأعمال.

قوانين إعادة هيكلة القطاع المصرفي
من المفترض أن تحيل الحكومة إلى المجلس النيابي قانونين لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، أحدهما ما زال في طور الصياغة في لجنة الرقابة على المصارف، فيما تمّت صياغة الآخر عبر لجنة استشاريّة داخل الحكومة من دون المصادقة عليه كمرسوم مشروع قانون. وحتّى اللحظة، ما زالت مناقشة القانونين داخل مجلس الوزراء، تمهيدًا لإحالتهما إلى مجلس النواب، متعذّرة، بالنظر إلى إشكاليّة اجتماع حكومة تصريف الأعمال لاقتراح تشريعات مصيريّة بهذه الحساسيّة.

مع الإشارة إلى أنّ هذه التشريعات ستحدد فعليًّا معايير تصفية المصارف أو دمجها والاستحواذ عليها، وآليّات تمييز الودائع وسداد بعضها مقابل الاقتصاص من بعضها الآخر، وهو ما يدفع أي طرف لتفادي تحمّل مسؤوليّة هذا النوع من المقترحات منفردًا. ولهذا السبب بالتحديد، من المستبعد جدًا أن يتحمّل رئيس حكومة تصريف الأعمال وزر تمرير مراسيم مشاريع قوانين من هذا النوع، إذا لم تمتلك حكومته كامل الصلاحيّات أولًا، وإذا لم يكن عملها مُحاط بأقصى قدر من الإجماع السياسي الداخلي ثانيًا، وهو ما لا يتوفّر في حكومته الحاليّة. وهذا ما سيعني تجميد مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي بأسره، الذي يمثّل حجر الزاوية في خطّة التعافي المالي التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي.

إشكاليّات حاكميّة مصرف لبنان
من المستبعد في ظل حكومة تصريف الأعمال أن يتم التعامل مع الوضع غير المألوف في حاكميّة المصرف المركزي، أي وجود حاكم ملاحق قضائيًّا في العديد من الدول الأوروبيّة، وخاضع لحجوزات على الأملاك والحسابات المصرفيّة. وبعد أن تفادى كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النوّاب فتح هذا النقاش داخل مجلس الوزراء، للحؤول دون تمكين رئيس الجمهوريّة من فرض مرشّحه إلى الحاكميّة، سيأتي الفراغ هذه المرّة ليحمي حاكم مصرف لبنان مجددًا من أي طرح يمكن أن يفضي إلى استبداله قبل نهاية ولايته. وفي الوقت نفسه، سيظل الحاكم مستفيدًا من حالة عدم انتظام عمل السلطة القضائيّة داخل لبنان، بعد أن تمكّن من فرملة الادعاء المقام ضدّه عبر دعوى مخاصمة الدولة، التي لن يتم البت بها بسبب الشغور في الهيئة العامّة لمحكمة التمييز .

في جميع الحالات، تبقى الخشية الأكبر متعلّقة بإمكانيّة حلول شهر أيّار المقبل، وانتهاء ولاية سلامة، قبل معالجة الشغور الرئاسي والفراغ الحكومي، ما قد يفضي إلى شغور في مركز الحاكميّة نفسه. وفي هذه الحالة، ستُحال صلاحيّات الحاكم إلى نائبه الأوّل وسيم منصوري، ومن غير المعروف مدى قدرة منصوري على تأمين إجماع داخلي حول استلامه مهمّه بهذا الحجم وهذه الحساسيّة، أو حتّى قدرته على لعب هذا الدور.

ملفّات الكهرباء
أهم الملفّات التي ستبقى معلّقة حتّى إشعارٍ آخر، سيكون ملف الكهرباء. فبالرغم من دخول قرار رفع التعرفة حيّز التنفيذ ابتداءً من صباح اليوم، وبالرغم من استمرار وزير الطاقة والمياه بالتفاوض على مصادر للفيول، ستبقى أجزاء أساسيّة من هذه الخطّة معلّقة حتّى إشعارٍ آخر. فالشغور الحكومي سيعني تعذّر المضي بتعيين الهيئة الناظمة للقطاع، كما سيعني فرملة جميع الإصلاحات الأخرى التي طلبها البنك الدولي من لبنان، ما سيعني استمرار تعليق قرض الغاز المصري والكهرباء الأردنيّة. كما سيتعذّر مضي الحكومة بأي من أجزاء خطّة الكهرباء الأساسيّة، وخصوصًا تلك التي تتصل ببناء المعامل أو تلزيمها. وإذا مضى رئيس التيّار الوطني الحر بخطّة عرقلة عمل الحكومة بأسرها، فمن المتوقّع أن يتفاقم هذا الجانب من الأزمة، بالنظر إلى سيطرته على وزارة الطاقة والمياه بالتحديد.

في خلاصة الأمر، دخل لبنان نفقًا طويلًا من الفراغ الموجع على المستويين المالي والاقتصادي، وهو ما سينعكس على شكل المزيد من التأخّر في دخول مسار التصحيح الذي تحتاجه البلاد اليوم. ومن غير المرتقب أن يتمكّن لبنان بالمضي قدمًا في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منه على هذا المستوى، قبل أن يتمكّن من استعادة الانتظام في عمل مؤسساته الدستوريّة، وخصوصًا على مستوى السلطة التنفيذيّة.