استراتيجية الأمن الوطني: "الحوار" لحصرية السلاح وانتصار منطق الدولة

منذ خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، واضعًا شعار "احتكار الشرعية للسلاح، كل السلاح"، في صلب أولوياته، بدا واضحاً أنّ مشروع بناء الدولة لن يستقيم من دون معالجة جذرية لمعضلة السلاح غير الشرعي. واليوم، وفي لحظة سياسية دقيقة، أتى موقف رئيس الجمهورية عبر قناة الجزيرة، عن أن "قرار حصرية السلاح قد اتُّخذ"، ليؤكد أنّ ما أعلنه في خطاب القسم ليس مجرد عناوين، إنما خريطة طريق رسم معالمها، وسينفذها ليس في خلال سنوات عهده الست، إنما في السنة الأولى أو السنوات الأولى للعهد، حتى لو أنّ الرئيس عون شدّد على أنّ تنفيذ قرار تسليم السلاح لن يتم بالقوة، بل عبر الحوار.

بين استراتيجية الأمن الوطني واستراتيجية الدفاع
على الرغم من ما هو معلن عن أنّ زمن السلاح خارج أطر الشرعية اللبنانية قد ولّى، إلا أن الحديث عن نزع السلاح أو تسليمه لا يزال وقعه صعباً على حزب الله، وهذا ما يتظّهر في تصريحات عالية النبرة لبعض قيادييه الرافضين للمس بسلاح المقاومة، باعتباره خارج النقاش، وجزءًا من أي منظومة للدفاع الوطني أو الأمن الوطني. موقفٌ يُخشى أن يعيد الأمور إلى المربع الأول، ويعرقل منطق الدولة.
ما يطرحه الرئيس عون يتخطى النقاش التقليدي حول "الاستراتيجية الدفاعية" الذي خيض سابقًا تحت سقف العلاقة بين الجيش وحزب الله، ليقدّم مقاربة أوسع تحت عنوان "استراتيجية الأمن الوطني"، وهي تتناول الأمن بمفهومه الشامل: الصحي، الاقتصادي، المالي، الغذائي، الاجتماعي، وحتى القضائي والدبلوماسي. وهي رؤية متقدّمة تعيد الاعتبار للدولة كمؤسسة ضامنة لسلامة المواطنين على مختلف الصعد، لا كمجرد ضابط إيقاع لتوازن السلاح.

لهذا، وفي كل مناسبة يتطرّق فيها إلى موضوع السلاح، لا يكتفي الرئيس بإعلان موقف نظري، إنما يستند في موقفه إلى دلائل ومعطيات ميدانية تؤكد فعالية الجيش في الجنوب، حيث يواصل تنفيذ عمليات تفكيك الأنفاق وردم المغاور جنوب الليطاني، وكذلك شمال الليطاني حيث داهم مواقع ومستودعات في مناطق منها برجا والبقاع، بناءً على معطيات أمنية أو بلاغات شعبية. وهي خطوات تعكس إرادة أمنية حازمة، حتى في ظل التعقيدات السياسية.
في طرحه لـ"الأمن الوطني"، يقدّم الرئيس جوزاف عون مقاربة جديدة للمسألة الأمنية، تقوم على فكرة استراتيجية الأمن الوطني، لا بوصفها بديلًا عن الاستراتيجية الدفاعية، بل إطارًا أوسع تنبثق منها. وتشمل هذه الاستراتيجية محاور متعددة، أبرزها:

الأمن العسكري والدفاعي: يبدأ بتنظيم العلاقة بين الجيش اللبناني والمجموعات المسلحة، ليس فقط حزب الله، إنما أيضًا المجموعات الإسلامية كالجماعة الإسلامية التي أظهرت قدراتها العسكرية علنًا في حرب الإسناد، وأي مجموعة تعتقد أنه بإمكانها الاستثمار في السلاح من خارج إطار الدولة. أما السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، فهو حتمًا على طاولة البحث في طريق تسليمه، إنما من خلال تفاهمات مع السلطة الفلسطينية التي لا تعارض أصلاً تسليم السلاح، بل يناسبها حصره بيد قوى أمن فلسطينية تنسق مع السلطات اللبنانية وتحافظ على أمن واستقرار المخيمات، بعيدًا عن أي سلاح متطرّف أو سلاح يخدم أجندات خارج الشرعية.

الأمن الاقتصادي والمالي: يُعمل على بلورة استراتيجية تأمين استدامة مالية للدولة عبر حماية البنى التحتية الاقتصادية من الانهيار.

الأمن الغذائي والصحي: يتم وضع استراتيجية تُحصّن المجتمع من الانهيارات الحياتية لضمان الاكتفاء الذاتي والحقوق المعيشية والصحية للمواطنين، مع توفير شبكة أمان غذائية وصحية.

الأمن الاجتماعي والتربوي: يجب أن تشمل الاستراتيجية الوطنية إقامة شبكة أمان اجتماعي تربوي، تتضمّن إصلاح السياسات الاجتماعية من جهة، وتطوير النظام التربوي على مختلف المستويات من جهة أخرى.

أما الركيزة الأساس والضامنة لتنفيذ كل ما سبق، فتقوم على استراتيجية أمن قضائي وإعلامي توعوي ودبلوماسي، كركائز تحمي الحريات وتحفظ الحقوق وتؤمن العدالة والمساواة تحت سقف سيادة الدولة ومصالحها العليا.

في نظرة رئيس الجمهورية إلى "لبنان الجديد"، أو في تعهده بانتشال البلد مما وصل إليه وأُوصل إليه، يعتبر الرئيس أن هذه الرؤية لا تُحصّن فقط السيادة بالمعنى التقليدي، بل تُعيد الاعتبار للدولة ككيان متكامل، يعالج الأزمات من جذورها لا من أعراضها، ويمنع الانهيارات قبل وقوعها.

بين الجنوب والشمال
في كل مناسبة، يحرص الرئيس على التشديد على أن الجيش يقوم بمهام وطنية جبّارة في مختلف المناطق، جنوبًا وشمالًا. ويشير تحديدًا إلى العمليات التي نفذها الجيش جنوب الليطاني، حيث قام بتفكيك أنفاق ومصادرة أسلحة وردم منشآت كان قد تسلمها سابقًا، في خطوة ترمي إلى منع أي استخدام مستقبلي لها من قبل مجموعات مسلحة.

أما شمال الليطاني، فكان لافتًا كشفه عن عمليات نفّذها الجيش هناك، كالحملة التي جرت في بلدة برجا ضمن قضاء الشوف، حيث ضُبطت مستودعات ومخازن أسلحة غير شرعية. وتشير مصادر عسكرية لـ"المدن" إلى أن الجيش، خلافًا لما هو معتمد في الجنوب، حيث يتم إبلاغ لجنة الرقابة عن المواقع المشبوهة، يتحرك شمالًا مباشرةً عند رصد تهديد أو تلقّي بلاغات من المواطنين، ما يُكرّس معادلة الأمن الاستباقي.
لا يتجاهل رئيس الجمهورية تعقيدات ملف سلاح حزب الله، لكنه يراهن على الحوار كمدخل وحيد للمعالجة، من دون الانجرار إلى صدام أو كسر توازنات داخلية حساسة. وهو مقتنع بأن حصر الحوار ضمن ثنائية بينه وبين الحزب، بدعم من الرئيس نبيه بري، هو أكثر فاعلية من أي حوارات موسّعة قد تُستغل في بازار المزايدات السياسية.

فالرئيس، الذي مشى بين الألغام حين تولى قيادة الجيش، أكانت الألغام الأمنية أو العسكرية أو السياسية، لن يساوم مع حزب الله، لكنه في الوقت نفسه، لن يفرض حلولًا تؤدي إلى كسر أي مكون من مكونات البلد. وبالتالي، تبقى الكرة في ملعب الحزب، الذي عليه أن يحسم خياره: إمّا الانخراط في دولة عادلة جامعة تُحتكر فيها القوة المسلحة بيد الشرعية، وإما البقاء في موقع القوة الخارجة عن المنظومة، وهو خيار سيُكبّد البلاد أثمانًا إضافية من الانقسام والشلل والعزل.

في المحصّلة
بين منطق الدولة ومنطق المقاومة، يبقى الرهان على عقل وطني جامع يدرك أن السيادة ليست شعارًا يُرفع، بل مسؤولية تُحتضن بسلاح واحد وقرار واحد. لكن يبقى التحدي الأكبر: هل تستطيع الاستراتيجية الأمنية الوطنية الشاملة أن تحشد توافقًا وطنيًا حقيقيًا، في ظل وجود فريق يربط سلاحه بقضايا إقليمية مفتوحة، ويجعل من المقاومة مظلّةً فوق سقف الدولة من جهة، وفي ظل وجود منظومة سياسية ومالية حكمت البلد وتحكمت به منذ التسعينيات ولا تزال، وهي المسؤولة عن كل الانهيارات التي وصل إليها البلد؟

لا يمكن التكهن بأي جواب، ما دام الحوار فكرة يتم تداولها ولم تتحوّل بعد إلى برنامج عمل وجدول نقاش يُترجم بتنفيذ قرار حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية دون سواها.