الأزمة تضرب قطاعاً جديداً: نصف أطباء الأسنان خارج الخدمة!

لم تعد صفة «الخطورة» كافية للتعبير عن وضع القطاع الصحي المنهك من كل النواحي في لبنان، فكل جزءٍ من أجزائه لديه أزماته الخاصة التي تنذر بكليتها بالوصول إلى قلب الانهيار. يوماً بعد آخر، تفرّخ الأزمة أزمات، فيما الحلول المطروحة لا تزال تتأرجح بين المسؤولين المعنيين، وفي مقدّمهم مصرف لبنان ووزارة الصحة، وتراوح في كثير من الأحيان مكانها، من دون تحصيل نتائج، ولو جزئية.

 

من أزمة الدواء إلى أزمة المختبرات التي تنسحب واحدة تلو الأخرى، إلى فواتير الصناديق الضامنة المعلّقة... إلى عيادات أطباء الأسنان التي تحوّلت إلى فراغٍ قاتل، مع تخلّي الناس عن «ترف» علاج الأسنان وتجميلها، ما جعل آلاف الأطباء وجهاً لوجه أمام هاجس خسارة حياتهم العملية.

 

في لبنان نحو 6000 طبيب أسنان مسجّلين في نقابتَي بيروت وطرابلس. لكن، من بقي صامداً منهم هم فقط 4500 طبيب، بعدما هاجر جزء وانقطع جزء آخر عن العمل مؤقتاً. مع ذلك، ليس كل هؤلاء «عاملين»، إذ يعاني الكثيرون منهم من «البطالة»، وبات حضورهم إلى العيادات يندرج في خانة رفع العتب. فمنذ بداية الأزمة الاقتصادية، ومعها أزمة كورونا، افتقد الأطباء زحمة الزبائن. وبحسب نقيب أطباء الأسنان في بيروت الدكتور روجيه ربيز، فإن «عمل أطباء الأسنان في العيادات تراجع أكثر من 50%»، متطرقاً إلى سببين أساسيين أوصلا إلى هنا، وهما «أولاً تخوّف المواطنين من التقاط الفيروس، مع أن الأطباء يدركون كيفية التعاطي مع المرضى منعاً لنقل الجراثيم ولديهم أجهزة تعقيم في عياداتهم». أما السبب الثاني، فيرجعه ربيز «إلى إرجاء المواطنين لعلاجاتهم غير الطارئة بسبب الأوضاع الاقتصادية».

 

هذان السببان دفعا الكثير من الأطباء إلى اتخاذ القرار الصعب: إقفال العيادات والهجرة، أما من بقي، فقد حاول تعديل بدل المعاينة، حيث باتت مسعّرة على أساس 4000 ليرة للدولار الواحد لـ«الخدمات» التي تتطلب استخدام مستلزمات طبية مكلفة. وفي هذا السياق، يقسم ربيز الخدمات الطبية الى قسمين: الخدمات الأوليّة (رصاصة أسنان...) التي تشكل 30% من عمل الأطباء «لا يزال الطبيب يتقاضى بدلها بالليرة اللبنانية، أما الخدمات التي تحتاج إلى مختبرات ومعدات وغيرها فيتقاضى الطبيب كلفتها بالدولار وهي تشكل حوالى 70% من عمله». من هنا، يؤكد ربيز أن الأزمة لدى أطباء الأسنان هي «أزمة مستلزمات»، مؤكداً أن «نقابتَي بيروت وطرابلس تقدّمتا مع بداية الأزمة بلائحة تتضمّن المستلزمات الأساسية فقط بقيمة 18 مليون دولار أميركي للحصول على دعم لها من مصرف لبنان»، علماً بأن قيمة ما كان يستورده لبنان قبل الأزمة كان يقدّر بـ 55 مليون دولار. مع ذلك، لم تحظ تلك اللائحة سوى بـ«مباركة» وزارة الصحة العامة، فيما رفض مصرف لبنان تقديم الدعم، ما دفع النقابتين الى تقديم لائحة أخرى قيمتها دون 10 ملايين دولار سنوياً، لكنّها رُفضت هي الأخرى من المركزي.

 

لا حلول اليوم، فيما الأطباء ينسحبون واحداً تلو آخر، وهذا ما ينبئ بالكارثة، بحسب ربيز، منبهاً إلى أن «انهيار قطاع طبابة الأسنان سيؤدي إلى تضرر أعمال ما لا يقل عن عشرات آلاف العائلات التي يعمل أفرادها في هذا القطاع، وخصوصاً أن هناك ما لا يقلّ عن 7 آلاف مساعد طبيب يعملون في العيادات إلى جانب الأطباء والعاملين في المختبرات وغيرها».

 

وفي حين تعاني المستشفيات من انقطاع في أدوية البنج، يتبيّن هنا في عيادات أطباء الأسنان أن هذه الأدوية هي أقلّ المشاكل التي يواجهونها. هذا ما تقوله نقيبة أطباء الأسنان في طرابلس، رولا ديب خلف، انطلاقاً من أن «لائحة الموادّ الطبية المفقودة والتي يستخدمها أطباء الأسنان طويلة جداً، ما يحتّم علينا إرجاء الكثير من العمليات»، مشيرة من الجهة المقابلة إلى أن هذه المواد غير مدعومة من مصرف لبنان، باستثناء أدوية البنج التي وصل دعمها الى نسبة 85%، «وذلك بعدما طالبت نقابتا بيروت وطرابلس بتأمين الدعم لها».

 

ما يزيد الطين بلة أن «أسعار المواد الطبية ارتفعت في بلد المنشأ وصارت تصل الى لبنان بأسعار باهظة، والأسوأ هو أن مستوردي المواد الطبية لا يرحمون، إذ يعمدون إلى بيعها للأطباء بأسعار خيالية تفوق سعر الصرف في السوق السوداء، أو يطالبون بالدفع بالدولار نقداً، فضلًا عن أنهم تراجعوا عن إعطاء مهلة للدفع وباتوا لا يقبلون سوى بالدفع الفوري لدى تسلّم الأطباء المواد»، على ما تقول خلف.

 

من هنا، دفع الغلاء الفاحش لأسعار الموادّ ببعض الأطباء إلى «استبدال المواد التي اعتادوا استخدامها بأخرى موازية لها، ولكن أقلّ كلفة». أما نتائج كل ذلك، فقد تبدّى في العيادات المقفرة، حيث تشير خلف إلى «أن التراجع في عمل أطباء الأسنان في الشمال بلغ 70%، وبات عملهم مقتصراً على أيام معدودة في الأسبوع، حتى إن بعضهم أقفل عياداته وهاجر». وتقدر ديب نسبة المهاجرين منهم بـ 40% و«الحبل ع الجرار»، وخصوصاً في ظل الخوف من أزمة مرتقبة في الكهرباء «التي قد تؤدي إلى توقف أعمال الأطباء كلياً». وتختم خلف آسفة، مشيرة إلى أنه «في الوقت الذي انتسب فيه 80 شخصاً إلى النقابة في طرابلس خلال العام ونصف العام الماضيين، قدم 60% من الأطباء المسجلين في النقابة أوراقهم الى الخارج بحثاً عن العمل»!