"الأمل" بالمنتشرين في وجه ديكتاتورية بري

تزامن الفيتو الذي رفعه الرئيس نبيه بري بـ «إسناد» من «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» إزاء انتخاب المنتشرين ضمن الدوائر الانتخابية، مع «تجديد البيعة» لاتحاد كرة قدم صنعه «ناظر البرلمان»، فصارت اللعبة تتنفس عبر رئة «المنتشرين». وفي موازاة  الاستحقاق الكروي، ضجت البلاد بحماسة الجماهير المتابعة لنصف نهائي دوري كرة السلة. ثلاث مشهديات تبدو متباعدة نظرياً لكنها ترتبط بشكل وثيق في ما بينها في بلد تستخدم فيه عوالم الرياضة ضمن حزمة الأدوات السياسية وصناعة الزعامة.

والحال أن موقف رئيس البرلمان و«حزب الله» الرافض لتصويت المغتربين في الداخل، يرتكز على مبدأ عدم المساواة في الفرص في ظل العقوبات المفروضة على الثاني وتأثير المناخات السائدة في بلدان الانتشار ضد «الثنائي» على خيارات الناخبين. بمعزل عن أسباب هذه الوضعية، فإن الموقف في الشكل ينسجم مع روحية القانون والقيم الديموقراطية. بيد أن ما يحاجِجان به هو أكثر انطباقًا على الداخل اللبناني وبشكل أوسع تأثيرًا بما لا يقاس مع الوعاء التصويتي الاغترابي.

فمن دون الغوص في تفاصيل معروفة، يفرض الثنائي مناخًا من الترهيب المعنوي والجسدي، معزّزًا بتوظيف فائض النفوذ في مؤسسات الدولة، وشبكات المصالح المالية، ناهيكم عن الاعتبارات الدينية، والهيمنة على صياغة الرواية الإعلامية التي تقدم للجماهير عبر وسائط تكنولوجية متعددة، من أجل التأثير بشكل حاسم في خيارات الناخبين، في مواجهة مرشحين يفتقدون إلى كل الأدوات مجتمعة. إذ ذاك يصبح تحرر المنتشرين من هذه الأدوات بمثابة نجدة للمرشحين تصلح القليل من التوازن المفقود في المنازلة الانتخابية.

الإشكالية التاريخية مع «الثنائي» تكمن في رفض الاحتكام إلى القواعد والأصول الديمقراطية، بل والافتئات عليها عبر فرض خيارات يُسبغ عليها رداء مؤسّسي للحفاظ على مظهر ديمقراطي باهت يصب في خانة استدامة نفوذهما، كما هو الحال في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة، حيث تدخّل الرئيس بري بنفسه في بعض الأماكن، واستثمر هالته الزعاماتية لدفع بعض المرشحين إلى الانسحاب وتأمين التزكية.

منذ انتخابات عام 2005 حتى «غزوة» 7 أيار 2008، كان «الثنائي» يضغط بشدّة لإخراج عملية صناعة القرار من المؤسسات نحو المقرّات الحزبية تحت بدعة «التوافق». ومذّاك حتى الأمس القريب، يمكن ملاحظة أن هذه الفكرة تشكل النهج الحاكم للرئيس بري في البرلمان، والذي يختصر بمصطلح «صُدّق» الشهير ورفضه إقرار التصويت الإلكتروني، وفي كيفية مقاربة العمل السياسي ومساوماته المعروفة.

قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان هناك صراع بين «أبو بهاء» و«أبو مصطفى» على «زعامة» كرة القدم، لإدراكهما حجم تأثير هذه اللعبة الشعبية ضمن عملية توسيع دائرة الانتشار، إنما من منطلقين متناقضين: الحريري أراد إدخال كرة القدم ضمن سياساته التنموية والنهضوية، وتوظيف الرياضة كأداة لتحسين صورة لبنان الخارجية بعد حرب طويلة، وجذب السياحة والاستثمارات، فبذل جهوداً هائلة لاستضافة لبنان «دورة الألعاب العربية» عام 1997، وكأس آسيا لكرة القدم عام 2000، وتطوير البنى التحتية الرياضية والكروية خاصة.

في المقابل سعى بري للسيطرة على كرة القدم لتزامن صعود نجم «الشيعية السياسية» مع فورة كروية مماثلة على صعيد الأندية واللاعبين، وحاول انتزاع قرار نادي «النجمة» الأكثر جماهيرية بذريعة طغيان اللون الشيعي على الجمهور.

في المقابل شهدنا صعودًا صاروخيًا لكرة السلة التي توسع انتشارها الجماهيري، وقادت لبنان نحو الريادة في آسيا وبين العرب، وصارت متنفّسًا للبنانيين يقبلون عليها أكثر من الاستحقاقات الانتخابية لإظهار انحيازاتهم السياسية والدينية والاجتماعية. ومع ذلك، حاول بري اقتحام كرة السلة عبر نادي «تبنين» إلا أن مناعة بنيانها جعلته ينسحب سريعاً.

التناقض المذهل بين كرة القدم والسلة يجسد بالضبط جوهر الصراع مع الرئيس بري وحلفائه الذي انطلق منذ ثورة 17 تشرين 2019، في ظل رغبة عارمة لإحياء قيم التنافسية والمشاركة الجدية، وإعادة الاعتبار لمفهوم الديمقراطية. ويعتبر تصويت المغتربين واحدًا من العوامل المرجحة في هذا الصراع بين ديمقراطية واقع يختزن عوامل التطور الدائم، رغم كل ما يحيط به من إشكاليات تعد من أساس جماهيريته، وبين ديكتاتورية واقع مأسوي طارد للأمل يعيد إنتاج الفشل.