الأمومة والحضانة وشعور الذنب... جدل "التضحية" وحقوق المرأة العامِلَة

أعادت قضيّة تعنيف أطفال في إحدى الحضانات، إلى الواجهة، جدلاً اجتماعيّاً حول أحقيّة المرأة في المواءمة بين عملها وكينونتها الشخصيّة، واهتمامها بأسرتها، وما إذا كان اللجوء إلى دور الحضانة "ترفاً" أم "حاجة" يفرضها واقع اقتصاديّ وظروف مجتمعيّة تختلف حتماً من أسرة إلى أخرى.

الأصوات التي علَت في مواقع التواصل الاجتماعيّ لم تكُن منصفة جميعها، فقد سمح ناشطون لأنفسهم تحديد ضروريّات الحياة للآخرين، وبخاصّة لأصحاب الدخل المحدود، ممّن تضطرّ الأمهات إلى العمل لمساندة العائلة، في حين أنّ خيار العمل يُعَدّ شخصيّاً للمرأة تبعاً لأولويّاتها. ناهيك عن تقصير الدولة في منح السيدات إجازة أمومة مُحقّة تصل إلى 14 أسبوعاً وفق "اتفاقيّة منظّمة العمل الدوليّة"، في حين تقتصر على عشرة في لبنان، بعد تعديل قانون عام 2014.

الأمومة أمام "خطر" الاكتئاب

انفصال الطفل عن أمّه ليس أمراً سهلاً، لكنّه ضرورة للطرفين معاً في مرحلة عمريّة معيّنة، فكيف إذا كان نتيجة حالة نفسيّة صعبة عانت منها الأمّ بعد ولادتها، تُعرَف بـ"اكتئاب ما بعد الولادة"، وشكّلت لها نوبات بكاء وهلع مستمرّة؟

تروي هناء تجربتها مع الأمومة، في ظلّ انعدام الوعي المجتمعيّ لمثل هذه الحالات. لم تكُن مدركة حقيقةَ حالتها النفسيّة وأسبابها وعلاجاتها، في الأشهر الأولى من الولادة، وواظبت إلى الاهتمام بابنتها، بالرغم من المشاعر السلبيّة، مع مساعدة ظرفيّة من والدتها.

ليست هناء امرأة عاملة، لكنّها اتّجهت إلى خيار إدخال طفلتها إلى الحضانة في عمر السنتين، ما شكّل مفاجأة للمحيط، وذلك بعد استنزاف الحلول الطبّيّة، ولجوئها إلى طبيب نفسيّ للعلاج، مع الأخذ بالنصيحة الطبّيّة بضرورة خلق مساحة أمان وراحة خاصّة لنفسها.

وفي ظلّ ما عانته في تلك الفترة من أمومتها، لم تلقَ دعم الأقرباء، وتقول لـ"النهار": "شاركتُ مشكلتي مع صديقات مررنَ بتجربة الأمومة، فعمدت بعضهنَّ إلى إلقاء اللوم عليَّ، ويتذرّعن أنّ دور الأم هو (التضحية)، إلى أن تفاقمت حالتي النفسيّة خلال الحجر الصحّيّ في فترة كورونا، وصولاً إلى نوبات استدعت دخولي المستشفى أحياناً".

لا تنفي هناء أنّ قرار الحضانة كان "صعباً جدّاً، وبكيتُ مطوّلاً بعد انفصالي عن طفلتي للمرّة الأولى منذ الولادة، إلّا أنّني اخترتُ الحضانة وفق معايير محدّدة، وأهمها النشاطات المقدّمة، وأسلوب الرعاية، وعدد الأولاد في الصفوف".

هذه الخطوة شكّلت منعطفاً سليماً في حياة هناء: "صار لي وقت للاهتمام بصحّتي النفسيّة عبر ممارسة الرياضة والنوم الكافي لأتمكّن بعدها من منح طفلتي الاهتمام المطلوب براحة وهدوء".

الهجوم على الأمّهات العاملات تحديداً بعد قضيّة "الحضانة المعنِّفة" لاقت ردود أفعال كبيرة، إلّا أنّ "الصادم" لهذه الفئة من المعلّقين كانت تجربة هناء، كأمّ غير عاملة، لجأت إلى خيار الحضانة كجزء من مسار تعافيها النفسيّ، في بيئة تُسيطر عليها الأفكار الرجعيّة والصور النمطيّة عن الأمّهات وأدوارهنَّ في المجتمع.

العنف الكلاميّ الذي تلقّته هناء بكثير من الواقعيّة، لم يُثنها عن دورها الحقيقيّ، حتّى مع وصفها بـ"الأم الفاشلة والأنانيّة"، أو "نصف أم"، فهذه الحملة على "السوشيل ميديا" كانت اختزالاً لدور الأمّ بـ"التضحية والعطاء". فقد اعتبر أحد الشبّان أنّه "على الأمّ، ومنذ لحظة ولادتها طفلَها، اعتبار نفسها أمام إعدام في حقّ وجودها الفرديّ"!

 

شهادتان لنموذج الأمّ العامِلَة

قصّتان لسيّدتَين عاملتَين، أدركتا أهميّة العمل وبناء الذات بعيداً من الموروثات الاجتماعيّة حول تحميل الأمّ "ذنب" التربية بمفردها.

لم تُخطّط الصحافيّة كارولين لإدخال طفلها إلى الحضانة قبل عمر السنتين، حينما كان العمل من المنزل خياراً متاحاً في ظلّ إقفال كورونا، إلّا أنّ واقعاً مستجدّاً بالعودة إلى مكاتب الصحيفة فرض خيار الحضانة في عمر السنة و3 أشهر، فضلاً عن حاجة الطفل إلى النشاطات التعليميّة في هذه المرحلة، في حين أنّ مهمّة اختيار الحضانة كانت من الأصعب، خصوصاً مع كلفتها الباهظة وفقاً لمعايير محدّدة.

تروي كارولين لـ"النهار" أنّ انفصال طفلها عنها لم يكن أمراً سهلاً، إلّا أنّها أدركت بعد فترة أهميّة هذه الخطوة، فقد شكّلت "راحة نفسيّة لكليهما"، إن كان بـ"مساحتي الخاصّة والعمل مع زملائي في المكتب، واعتياد طفلي تدريجيّاً على غيابي لفترات"، وفق قولها، مؤكّدةً أنّ "مجتمعنا يفتقد الوعيَ الكافيَ لتقاسم المسؤوليّة بين الرجل والمرأة في رعاية الأولاد، فيما تُحمّل أمّهاتٌ أنفسَهنّ ذنبَ التقصير مع أطفالهنَّ نتيجة ضغط المجتمع".

أمّا ريم (اسم مستعار)، العاملة في محلّ للألبسة في بيروت، فكانت أمام تحدّي العمل بدوام كامل حتّى السادسة مساءً، ما اضطُرّها إلى إدخال طفلتها إلى الحضانة في عمر الـ9 أشهر، قسراً، وذلك بعد عجزها عن تركها عند أقربائها لأسباب صحّيّة لدى الجدّتَين.

وبالرغم من التجربة الجيّدة مع الحضانة، تقول ريم "شعرتُ وكأنّ قلبي ينسلخ من مكانه، مع قلق حول مصير طفلتي في بيئة رعائيّة جديدة"، مؤكّدةً أنّه "لا يمكننا تعميم تجربة "الحضانة المعنِّفة"، تماماً كما لا يمكننا التعميم في أيّ حادثة عنف أو اعتداء جنسيّ عائليّ، كالتي حصلت مؤخّراً في عكّار".

وتضيف لـ"النهار": "نرفض الأصوات العالية التي تتلطّى وراء عناوين الحرّيّة وعمل المرأة لجَلدها واتّهامها بـ"رمي" أطفالها في الحضانات، للتفرّغ لعملها فقط، فالأم المضحّية بدوام كامل إلى جانب زوجها، هي أيضاً مسؤولة عن أسرة بدوام إضافيّ داخل بيتها، وتواكب احتياجات أولادها ومتابعة تعليمهم".

 

رأي علميّ

الجدل حول أهميّة دخول الطفل إلى دار رعاية وتربية يتطلّب رأياً علميّاً لتصويبه، إذ إنّ "الطفل في عامه الأوّل يجب أن يحصل على رعاية من والدَيه بلا أيّ تدخّل من فئات مجتمعيّة، وبعدها يجب أن يختلط مع أقرانه، فالتعلّم الاجتماعيّ البنائيّ لا يتمّ إلّا استقاء معارف مع أطفال من فئته العمريّة"، بحسب الاختصاصيّة في #الطفولة المبكرة غنى قصير.

القاعدة التربويّة هذه قد لا تمتّ الى الواقع بصلة في ظلّ ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة قاهرة في لبنان، إذ يتطلّب هذا الأمر تأمين إجازة مدفوعة للأمّ، وتأمين خدمات رعائيّة مسانِدة للأم، كي تحصل على مساحتها الشخصيّة عبر ممارسة الرياضة والتفريغ الروحيّ، والقيام بأنشطة خاصّة، ما يضطرّها للجوء إلى دور الحضانة.

تتوقّف قصير في حديثها عند الظروف التي تُميّز حياة سيّدة عن أخرى، معتبرة أنّ "الأمّ تُدرك قدرتها على التحمّل والعطاء العاطفيّ والفكريّ لأولادها، وما يلزمها لتضمن استمراريّتها مع الأطفال، فكلّ واحدة تواجه ضغطاً نفسيّاً وأوضاعاً اجتماعيّة مختلفة عن الأخرى، ناهيك عن المستوى الثقافيّ للبيئة المحيطة، فلا يمكنني الحُكم على نسبة 5 في المئة على الأقلّ منهنّ، فكيف بالتعميم؟".

في المتابعة التربويّة والسلوكيّة للأطفال، يلحظ الاختصاصيّون في هذا المجال الفروقات بين الأطفال، ممِّن تربّوا في مرحلة الحضانة، عبر استعدادهم لتحصيل المهارات المتعلّقة بالقراءة والكتابة، وذلك خلال تهيئتهم للدخول إلى المدرسة.

وأمام هذا الواقع، تصف قصير التعليقات الأخيرة على "السوشيل ميديا" بـ"الأصوات الجاهلة التي تزعق بالأمومة"، ظنّاً منهم أنّهم "أهلٌ لمنح شهادات أمومة للبعض، وسحبها من البعض الآخر، بأسلوب مستفزّ جدّاً". وهي تنصح الأهل بضرورة "الاستفسار عن دار الحضانة قبل إدخال الأولاد، والحرص على المتابعة لاحقاً والمطالبة بمقاطع فيديو أو صور، ومراقبة سلوكيّات الطفل نحو الأفضل أو الأسوأ، والمواكبة اليوميّة".

بين الحقوق والتشريع

تتوقّف رئيسة "لجنة الطفل والمرأة" النيابيّة النائبة عناية عزّالدين عند قضيّة الأمومة باعتبارها موضوعاً ثقافيّاً وحقوقيّاً، فـ"لكلّ سيّدة الحقّ في الحصول على بيئة صديقة لعملها، تدفعها إلى خلق توازن بين حقّها في رسم مسار مهنيّ لها، وحقّها في ممارسة أمومتها وفقاً لأولويّاتها العائليّة، وبحسب مراحل الأولاد العمريّة".

في حديث لـ"النهار"، تُشدّد عزّالدين على أنّ هذه "المسؤوليّة تشاركيّة بين الرجل والمرأة، وبالتالي يجب أن نُدخل تعديلات على قانون العمل تمنح الوالدَين مرونة في دوامات عمليهما، بحسب التزاماتهما، من دون أن يخسرا الأمان الوظيفيّ والحماية الاجتماعيّة، أو أخذ إجازات طويلة غير مدفوعة تؤثّر على تعويضَيهما في نهاية الخدمة".

هذا الرأي ترافق مع خطوة تشريعيّة قامت بها عزّالدين في 8 آذار الماضي، فقد تقدّمت باقتراح قانون لتعديل قانون العمل كي يستوعب أنماط العمل الجزئيّ من 3 إلى 6 ساعات، وليس فقط 5 ساعات، وحتّى إن اقتضى الأمر أن يكون عملاً من المنزل، من دون حرمان الموظّف حقوقَه في الضمان الاجتماعيّ.