الإفلاس المقصود الوهمي والحقيقي

رغم رفع الدعم جزئياً عن المحروقات ومضاعفة اسعاره، لا تزال أزمة المحروقات على اوجّها، فالطوابير امام المحطات لا تزال على حالها، وبعض المحطات لا تزال مقفلة بينما المازوت مفقود، لأنّ الاعتمادات التي فتحها مصرف لبنان غير كافية، بدليل تحذير اصحاب الافران ونقيب المستشفيات من أزمة لا تحمد عقباها اذا لم تنفرج اليوم. اما اصحاب المولّدات فإما اطفأوا مولّداتهم في ظل فقدان المازوت وإما يعتمدون تقنيناً قاسياً.

إنّ جلد النفس واليأس لم ولن يكون يوماً في قاموسنا، لكن المريض عليه أن يقبل بمرضه، ليواجهه ويحاربه، كي يبدأ بالشفاء بغية القضاء عليه. لكنّ المريض الذي لا يقبل مرضه، ويرفضه، فإنه لسوء الحظ، يبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم. كذلك النعامة التي تدفن رأسها في الأرض لا تستطيع أن تأكل أو تشرب، وأن ترى نور الحياة.

في تشرين الأول والثاني 2019، بعد إقفال القطاع المصرفي لمدة 12 يوماً على التوالي، شاهَدنا بحقٍ هلع، وخوف المودعين، والهجوم على المصارف، لسحب مدّخراتهم، وبدأ الإنهيار المالي والنقدي يوماً بعد يوم. أما الدولة والسياسيون فكانوا أسوأ في مواجهة الإنهيار والأزمة ممّن صنعها والذي أدّى إلى مزيد من التدهور.

إنّ 7 آذار 2020، كان تاريخاً أسود ومؤذياً للبنان، حيث أعلنت الحكومة اللبنانية رسمياً التعثّر المالي، والتوقف عن تسديد سندات الأوروبوندز، أي الإفلاس المبطّن. لأن اقتصادياً لا يوجد تفسير لكلمة «تعثر»، أو التخلف عن الدفع. والكارثة الأكبر أنه بعد إعلان «التعثر» لم يجرؤ أحد من المسؤولين على التفاوض مع الدائنين أو التواصل الشفاف مع البلدان الدائنة، ولا إعلان أي خطة أو استراتيجية إنقاذية، ولا تنفيذ أي إصلاح ولو كان خجولاً.

أما المواجهة الوهمية لهذا الإفلاس المالي، فكان مشروع «كابيتال كونترول» الذي لم يبصر النور بعد أكثر من 20 شهراً، ومن ثم مشروع «التدقيق الجنائي»، الذي كان يُعلن على الشاشات، ويُطعن في الظهر في الكواليس من الأشخاص عينهم. ومن ثم مشروع البطاقة التمويلية أو التموينية التي لا يُمكن تمويلها إلا من الإحتياطي، أي من أموال المودعين. فكلها مشاريع وهمية، لم تُبصر النور واقعياً.

إنّ هذا الإفلاس النقدي والمالي الذي بدأ في 7 آذار 2020، لا يعني أنّ الدولة ولبنان مفلسان، فالدولة غنية جداً، حتى هذه اللحظة، وهي من الدول الوحيدة في العالم التي لا تزال تملك كل مؤسساتها، إذ هي تملك المرافئ البرية والبحرية والجوية، والإتصالات السلكية واللاسلكية، والمدارس والجامعات، والمستشفيات العامة. وهي تملك أيضاً قسماً كبيراً من العقارات والممتلكات العامة في لبنان، فضلاً عن الذهب وغيره.

وعليه، الدولة اللبنانية غير مفلسة، لكنها تواجه إفلاساً نقدياً، ومالياً واقتصادياً. فالاستراتيجية المتّبعة والواضحة من قبل السياسيين هي رشق كرة النار في اتجاه الشعب والمؤسسات الخاصة والمستثمرين والمودعين، والمغتربين لتحميلهم هذا الإفلاس، وتحميلهم خسائر الدولة، ليتهرب السياسيون من مسؤولياتهم. لذا، يحاولون تحميل هذا الإفلاس النقدي للمودعين كأولوية، ووضعهم وجهاً لوجه مع المصارف.

في الوقت عينه، يبنون صراعات بين المصارف والشركات الدائنة، ومن ثم بين الصيدليات والمرضى، وبين المستشفيات والرازحين تحت المرض، وبين شركات التأمين والمستشفيات، ومن ثم بين شركات توريد الأدوية والشركات المصنّعة في الخارج... ويُحمّلون أيضاً هذا الإفلاس النقدي لشركات الوقود والمقاولين والتجار والصناعيين.

هذه هي حقيقة الاستراتيجية المقصودة للتدمير الذاتي، لضرب كل أركان الإقتصاد الحر، وتحميل الشعب الإفلاس النقدي والمالي، الذي تسبّبت به الدولة والسياسيون، حيث تبقى الدولة غنية وتملك كل مؤسساتها، فيما المؤسسات الخاصة تنهار والشعب يفلس.

الهدف المبطّن، بعد إفلاس الشركات الخاصة والعامة أيضاً، هو تدمير قيمتها وقدرتها على متابعة أعمالها، حيث الأيادي السود مستعدة لشرائها بأموال بخسة.

هذه هي الحقيقة المرة عن إفلاس الدولة المبرمج، وإفلاس القطاع الخاص الممنهج، والإفلاس النقدي والمالي الحقيقي، فيما الدولة لا تزال ثرية وثروتها طائلة.