الاستحواذ على كهربائنا: الفرنسيون "أهون" من الألمان بإبقاء الفساد

توسّعت الحركة الفرنسية في لبنان منذ تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدها، للسعي لحلّ الأزمة اللبنانية. وتُوِّجَ النشاط الفرنسي باستثمارات في مختلف القطاعات، كانت نجمتها شركة CMA-CGM.

على أن العين الفرنسية لم تغمض بعد، فما زال الاستثمار في قطاع الطاقة ينتظر، وهو استثمار دسم، خصوصاً إذا ترافق مع تسهيلات لبنانية تراعي مصالح الفئات السياسية.
وحتى الآن لا يبرز منافسٌ جدّي للفرنسيين للاستثمار بهذا القطاع، باستثناء رغبة عبَّرَت عنها سابقاً شركة سيمنز الألمانية. وبين الرغبتين، يحضُرَ الواقع الراهن للقطاع بوصفه عقبة أمام الاستثمار الجيِّد. إلاّ إن بقي هناك ما يمكن تمريره وفق القواعد اللبنانية.

عروض غير محسومة
لم ينغمس الألمان عميقاً في ملفّ الاستثمار في القطاع، من دون إظهار الأسباب. لكن النوايا والاستعداد للمساهمة في تطوير القطاع وإخراج لبنان من أزمة الطاقة، بقيت حاضرة في الاجتماعات التي حصلت في العام 2018، سواء بين رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري مع المستشارة الألمانية حينها أنجيلا ميركل، في شهر حزيران، أو بين وفد تقني من شركة سيمنز ووزير الطاقة يومها سيزار أبي خليل، في تشرين الأول من العام نفسه.

أعلنت ميركل إمكانية تقديم بلادها مساعدة للبنان في مجال الطاقة. لكن الإعلان لم يُتَرجَم بخطوات إجرائية على مستوى رسمي. وبعد نحو أربعة أشهر، إطَّلَعَ وفد سيمنز على واقع قطاع الكهرباء، وأكّد لوزير الطاقة استعداد الشركة لتأهيل وتطوير شبكة الكهرباء، والقدرة على بناء معامل جديدة إذا دعت الحاجة.

طُوِيَ الملف، وانقطعت أخبار سيمنز، باستثناء إصرارها الدائم على مراعاة جودة الفيول المستخدم لتشغيل مولِّدات من صنعها، في معامل الانتاج اللبنانية، منعاً لتضرّرها.

وعلى عكس ذلك، تتوالى المواقف الفرنسية واللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين تحت مظلّة الاستثمار في القطاع. وآخر اللقاءات مع الجانب الفرنسي، كانت في مطلع شهر شباط الماضي. إذ بحثت وزارة الطاقة مع وفد من مؤسسة كهرباء فرنسا "متابعة الأعمال القائمة مع شركة كهرباء لبنان وأعمال التخطيط مع وزارة الطاقة لإقامة معامل جديدة ومتابعة الأعمال تمهيداً للمرحلة المقبلة"، وفق ما أكّده وزير الطاقة وليد فيّاض.

وفي العام الذي سبق، وتحديداً في شهر أيار، عرضت الوزارة مع المؤسسة مسألة استدراج عروض لإنشاء معامل إنتاج جديدة. وفي العام 2021، كان التأكيد من قِبَل رئيس مجلس إدارة مؤسسة كهرباء فرنسا، جان برنار ليفي، على التزام المؤسسة دعم قطاع الطاقة في لبنان، بناءً على توجيهات ماكرون، على حد تعبير ليفي.

كفّة التلزيم تميل لفرنسا
لا يُكثِر الألمان الكلام واللقاءات. ويُثبِت إصرارهم على الالتزام بالمعايير التقنية المطلوبة لضمان عمل منتجاتهم، أنهم يعملون وفق قواعد علمية ومهنية واضحة. في حين أن مقاربة الدور الفرنسي في قطاع الطاقة، يتداخل مع معطيات أخرى، تجعل الحُكم على استثمارهم في القطاع مشوباً بعلامات الاستفهام، تجمع بين تجربة التعامل مع كهرباء فرنسا منذ فترة التسعينيات، وبين ما يُطرَح من بناء المعامل، فضلاً عن السعي السياسي لتوسيع الدور الفرنسي في لبنان.

ولذلك، ترجّح مصادر إدارية سابقة في مؤسسة كهرباء لبنان، ميلان الكفّة لصالح الجانب الفرنسي، ما إن تحين ساعة التلزيمات. وتنطلق المصادر من "خبرة الفرنسيين بملف الكهرباء في لبنان". فتقول في حديث لـ"المدن"، أن مؤسسة كهرباء فرنسا "أشرفت في التسعينيات على إعادة إعمار القطاع بعد الحرب، وكان دورها استشارياً، وغالباً ما كانت تدفع الدولة كلفة الاستشارات".

على أن التجربة الطويلة لم تكن نتائجها مرضية، لأن "كهرباء فرنسا كانت جزءاً من آلية العمل اللبنانية التي استمرت حتى اليوم". وحسب المصادر "دعمت كهرباء فرنسا توجّهات وزارة الطاقة اللبنانية وإدارة مؤسسة كهرباء لبنان في المشاريع التي أثبتت فشلها، ومنها مشروع شركات مقدّمي الخدمات ومشروع إنشاء معمل سلعاتا، رغم أنها رفضت المشروعين في البداية، لكنها عادت وأيّدتهما. ولذلك، حظيت المؤسسة بمعاملة خاصة من قِبَل الوزارة وإدارة كهرباء لبنان".

وفي مقارنة بين فرنسا وألمانيا، تجد المصادر أن "وجود كهرباء فرنسا في لبنان ليس نقلة نوعية لقطاع الطاقة". وعلى العكس، تؤيّد المصادر وجود شركة سيمنز التي "تعمل بجدية أكبر وبشفافية كاملة، تتمثّل في تحديد أسعار تلتزم بما هو متداول عالمياً. كما أن التكنولوجيا الألمانية في هذا المجال ممتازة جداً".

يؤيّد المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة غسان بيضون، ميلان كفّة التلزيم لكهرباء فرنسا، لكنّه يتساءل عن "مدى طواعية الفريق الفرنسي لمسايرة وزارة الطاقة اللبنانية بما تريده. وتحت عنوان معرفتهم الكبيرة للقطاع، يعرف الفرنسيون أيضاً كيف يسيرون في اللعبة اللبنانية. كما أن الفرنسيين على علاقة وثيقة بفريق وزارة الطاقة والوزراء المتعاقبين، الذين بدورهم يعرفون كيف يتلطّون خلف شعارات رنّانة، كشعار التعامل مع شركات عالمية ذات سمعة وشهرة، وهو ما سيكون مدخلاً لتمرير أي مشروع بحجة عالمية مؤسسة كهرباء فرنسا".

ويتخوَّف بيضون خلال حديث لـ"المدن"، من لجوء وزارة الطاقة إلى حيلة تستخدمها دائماً، وهي "الشركة الأكثر جهوزية". إذ تبحث الوزارة مع إحدى الشركات، كافة الجوانب المتعلقة بأي مشروع من دون الإعلان عن ذلك رسمياً، وفجأة تستعجل الوزارة التلزيم، وتبحث عن الطرف الأكثر جهوزية لتلبية الحاجة الملحّة "وهذا ما حصل مع شركة كارادينيز التركية. إذ كانت الأمور مرتَّبة مسبقاً، والشركة حاضرة للإتيان بالبواخر قبل أي شركة أخرى". والطرف الأكثر جهوزية حالياً هو الفرنسي الحاضر سياسياً وتقنياً ويُجري اللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين.

وبين كهرباء فرنسا وشركة سيمنز، يفضّل بيضون التعامل مع الشركة الألمانية. ويرى أن وزارة الطاقة "تتهرَّب من سيمنز لأن التعاقد معها يمكن أن يفضح ما كان يحصل في العقود السابقة، وخصوصاً على مستوى الأسعار".

تناقضات مقلقة
لا شكّ بأن قطاع الكهرباء يحتاج إلى نقلة نوعية. لكن إذا لم تكن النقلة عبارة عن قطيعة تامة مع النهج الحالي، فستكون بلا جدوى، وإن شهد القطاع بعض التحسينات. وحتى اللحظة، هناك تناقضات في ما تحمله فرنسا لهذا الملف.

ففي حين يؤكّد ماكرون على ضرورة مكافحة الفساد وضرورة إجراء الإصلاحات التي طرحت في العام 2018 خلال مؤتمر سيدر، وخصوصاً في قطاع الطاقة، تبحث كهرباء فرنسا مع وزارة الطاقة اللبنانية إنشاء معمل جديد لا حاجة فعلية له. لكن يُعيد هذا الطرح إلى الأذهان، إصرار التيار الوطني الحر على إنشاء معمل في منطقة سلعاتا.

كما من غير المؤكّد اشتراط كهرباء فرنسا إجراء لبنان الإصلاحات المطلوبة، على رأسها تعيين الهيئة الناظمة للقطاع. فيكون دخولها إلى القطاع على أرضية غير صلبة.


تقنياً، يفضّل أهل الاختصاص التقني الاستثمار الألماني، لكن أهل القرار السياسي يقفون على الضفة الأخرى من أهل الاختصاص، ولذلك تزيد فرص مؤسسة كهرباء فرنسا، مدعومة بسلسلة الاستثمارات الفرنسية التي أصبحت أمراً واقعاً. وبعيداً من كل هذا النقاش التقني، ينتظر المواطنون تحسّناً فعلياً للتيار الكهربائي وأسعاره، بغضّ النظر عن الجهة المستثمِرة وشروط الاستثمار.