الانتخابات البلديّة والاختياريّة في لبنان.. حاجة وجوديّة

كتب د.ميشال الشماعي في "جسور": 

حسمها وزير الداخليّة اللبنانيّ القاضي بسام مولوي وأقرّ مواعيد الانتخابات البلديّة والاختياريّة في أيّار المقبل.

وفي هذا القرار، ضرب لنهج محور الممانعة الممعن على تفريغ الدّولة من مؤسّساتها كلّها ، فهذا النّهج الذي اعتمده هذا المحور منذ بدء سيطرته على الدّولة العميقة بعد انقلاب ذلك السابع من أيّار في العام 2008.

 

لقد نجح الوزير بسام المولوي بإسقاط حجج هذا المحور كلّها التي كان يتذرّع بها لعدم إجراء هذه الانتخابات، وذلك لاعتبارات عدة ليس أوّلها التشرذم داخل بيئته حيث نجحت الأزمة الاقتصاديّة بتقليب أهل بيته عليه لأنّ الثنائي ما عاد يستطيع بعد اليوم لجم بيئته الحاضنة التي لم يعد بإمكانه مدّها بخيرات المؤسسات العامة بعدما أفلسها، ولا حتّى بالمساعدات التي كانت تصلهم من الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران. وهذا ما خلق نقمة داخليّة في هذا الشارع ستستعر كالنار في الهشيم متى جرت هذه الانتخابات. فضلاً عن إمكانيّة التصادم بين ركني الثنائي، أي حركة أمل ومنظمة حزب الله. فهشاشة هذا الفريق لم يعد بإمكان أحد إخفاؤها على أحد.

 

إلى ذلك كلّه تضاف إشكاليّة جديدة استجدّت بعد الاتفاق السعودي – الإيراني وهي فقدان المنتَج الإيديولوجي صلاحيّته حيث لم تعد منظمة حزب الله قادرة على مواجهة المملكة إيديولوجيًّا. وهذا ما سيخلق مأزقًا إيديولوجيًّا داخل هذه البيئة بالذات لانتفاء أسباب القتال في سوريا واليمن والعراق على خلفيّات إيديولوجيّة. وبالتّالي على المدى الطويل، فقدت منظمة حزب الله مبرّر وجودها الإيديولوجي، وانقطع بذلك بعدها العقائدي مع نظريّة ولاية الفقيه التي بعد هذا الاتّفاق بطُلَ مبرِّرَ وجودها على قاعدة المواجهة الإيديولوجيّة.

فضلاً عن أنّ هكذا انتخابات ستظهّر التصدّعات الموجودة في بيئة الثنائي، فما زلنا حتّى هذه الساعة نشهد خلافات في المجالس البلديّة لبعض القرى الشيعيّة على خلفيّة الانتماء إلى أحد طرفي الثنائي.

كذلك الثنائي بغنى عن إدخال المكوّن الثورويّ المدني إلى تركيبة البلدات من بوابة البلديّات والمخاتير، لأنّ ذلك سيمهّد للدّخول بقوّة إلى الساحة النيابيّة. هذه الساحة التي نجح الثنائي بالاحتفاظ على مرتكزاتها بصعوبة فاقعة. لهذه المعطيات مجتمعة لا تناسب هذه الانتخابات فريق الممانعة. فيما يبدو الفريق الآخر على أتمّ الجاهزية لهكذا انتخابات لأنّها ستثبّت وجوديّته أكثر في صلب التركيبة المؤسّساتيّة. وهذا ما سيسمح لتصحيح بعض الأخطاء التي ظهرت في انتخابات 2022 النيابيّة؛ مع التأكيد على وجهة الاختلاف بين نوعي الانتخابات إن كان بلديّة واختياريّة أو نيابيّة. إضافةً إلى ذلك، ستؤدّي هذه الانتخابات إلى إنتاج مجالس بلديّة قادرة على أن تكون خليّة أزمة على القاعدة التنافسيّة في خدمة المجتمعات المحليّة. وهذا ما سيشكّل قاعدة للإنطلاق نحو الدّولة اللامركزيّة التي بات إقرارها حتميًّا، في ظلّ المتغيّرات السياسيّة القادمون عليها.

ولعلّ هذا ما يجعل من هذه الانتخابات الحاجة الوجوديّة لاستمرار العمل المؤسّساتي التي تشكّل بدورها الشريان الأساسي لاستمرار الدّولة. ولا يظنّن أحد أنّه بعدم إجراء هذه الانتخابات وإلقاء الأعباء على كواهل القائمقامين قد يسمح بتسيير المرفق العام؛ هذا المرفق الذي لا يسير إلا انطلاقًا من المبادرات الفرديّة لبعض الذين توّلوا إدارته، وقلّة منهم شكّلوا نماذج ناجحة. وأغلب هؤلاء هم الذين يحملون في خلفيّة تفكيرهم اليقافة الحزبيّة الصحيحة المبنيّة على الفكر المؤسّساتي.

 

وفي هذا السياق أيضًا لا يمكن القفز فوق الأصوات التي علت رافضةً إجراء هذه الانتخابات، لا بل أيّ انتخابات في ظلّ الاحتلال الإيراني الذي نعيشه اليوم. وذلك لأنّ الانتخاب تحت هيمنة الاحتلال لا ينتج سلطة حرّة، بل سلطة عميلة أو على الأقلّ أداة طيّعة بيد هذا الاحتلال. لذلك، يرى هؤلاء ضرورة التصويب أوّلاً على الاحتلال الإيراني للتحرّر منه عبر الضغط على الدّولة والمجتمع الدّولي لتطبيق القرارات الدوليّة ذات الصلة بالموضوع ( 1559-1680-1701)؛ وبعد ذلك يصار إلى إجراء أيّ انتخابات.

 

لكن المقاربة الواقعيّة تختلف. من هنا، هذه الانتخابات تبدو الحاجة الأساسيّة لاستمرار هيكل الدّولة ومنعه من السقوط، بهدف الوصول إلى رئيس جمهوريّة يحمل هويّة الدّولة المنتظمة مؤسّساتها، من دون أن يكون فيها أيّ فريق متسلبط على آخر بقوّة سلاحه غير الشرعي، أو أيّ تحالفات إقليميّة أو دوليّة ينسجها. هذه الدّولة الموعودة التي لا بدّ أنّنا واصلون إليها في القريب القادم من الأيّام، ستكون ترجمة لسياسة الاستقرار التي نجحت القوى الإقليميّة بفرضها على المنطقة برمّتها. ومَن لا يستقلّ هذا القطار سيبقى خارج رؤية ال 2030 المقبلين عليها. ومن له أذنان سامعتان.. فليسمع !