البطريرك صفير في ذكراه... مجد لبنان في صرح وإنسان

قد يقول قائل إن مرور الزمن كفيل بمصالحة الناس والأوطان مع الغياب إلى حد ختم الجراح في نهاية المطاف. قد يكون في ذلك شيء من الحقيقة القاسية. غير أن هذا لا ينفي أن تطبيقها يبقى مستحيلا في زمن يتم الهامات والقامات، واشتداد وطأة الأزمات الوجودية، على غرار تلك التي تعصف بلبنان اليوم.

هذه هي حال لبنان، الدولة المئوية التي كسرت ظهرها الأزمات المعيشية والصحية، مع البطريرك "التاريخي" نصرالله صفير الذي تطوي البلاد اليوم عامين ثقيلين من غيابه الذي قد لا يعوضه مرور مئوية ثانية وثالثة. إلا أن أحدا لا يشك في أن في حضرة الهامات من طينة "بطريرك الاستقلال الثاني" لا مكان للحزن، لأن الله لا يترك مؤمنيه من دون عزاء. ذلك أن الشخصيات التي تصنع تاريخا تجبر تيار الزمن الجارف على التوقف عندها والانحناء أمامها. وهذه حال التاريخ مع البطريرك الذي شاء قدره أن يودع لبنان قبيل مئويته، وقبل أن يرى الشعب اللبناني ثائرا في الساحات والطرقات والشوارع على طبقة سياسية لطالما أطلق سيد بكركي الاستثنائي سهامه تجاهها، لا لشيء إلا لأن المعركة واضحة: "نحن قوم نعشق الحرية، وإذا عدمناها، عدمنا الحياة".

وإذا كان من سوء حظ لبنان أن غياب صفير قبيل انطلاق ثورة الحرية في نسخة 2019، فإن الذاكرة الشعبية اللبنانية ستحفظ حتما بين حناياها صورة نصرالله صفير بطل الحرية والتحرر من نير القبضة السورية الحديدية على لبنان، وصون حقوق المسيحيين واللبنانيين عموما، بعيدا من الشعارات الشعبوية وبعض الممارسات ذات الطابع الديماغوجي. ذلك أن لا يمكن أن يمر شريط حياة البطريرك الراحل من دون التوقف عند محطة نداء المطارنة الموارنة الشهير الذي صدر في أيلول 2000، بعدما خطه البطريرك صفير شخصيا، وحرض على تضمينه مطالبة واضحة وصريحة بانسحاب القوات السورية من لبنان، في خطوة كانت الأولى من نوعها. من حيث يدري- أو ربما لا يدري- أعطى سيد بكركي بهذا النداء جرعة أوكسيجين كانت ضرورية للقوى المسيحية اليتيمة القيادات، بينما كانت هذه الأخيرة موزعة بين نفي البعض وسجن البعض الآخر، وهو ما تجلى في أحداث 7 آب الشهيرة حيث غزا شباب الأحزاب المسيحية الكبرى، التيار الوطني الحر والكتائب والقوات اللبنانية الشوارع والساحات مجاهرين بمطلب الانسحاب السوري. فما كان من أركان الوصاية السورية وأدواتها الأمنية والسياسة المحلية إلا أن شغّلت محركات آلة القمع الخاصة بها لترد بحملة اعتقالات واسعة طالت كوادر الأحزاب المسيحية، وأثارت استياء صفير الذي لم يكن يخفي امتعاضه إزاء انتقال مديرية الأمن العام (التي شاركت بقوة في حملة توقيف أبطال 7 آب) من الموارنة إلى الشيعة (بشخص اللواء جميل السيد) من دون أن ينال المسيحيون مركزا بديلا بالقيمة المعنوية والسياسية نفسها، مع العلم أن المدير العام للأمن العام كان مركزا مرتبطا بشكل مباشر برئيس الجمهورية. فجوة عمّقت الخلاف بين بكركي وبعبدا التي كان على كرسيها الرئيس إميل لحود، أحد أقوى حلفاء دمشق في بيروت، في وقت كان صفير رأس حربة المطالبين بالسيادة والحرية والاستقلال. كيف لا وهو صاحب الاجابات المختصرة التي تحمل الكثير من القنص السياسي في اتجاه سوريا الأسد. فمن منا لا يذكر كيف رفض البطريرك الكسرواني الذهاب إلى دمشق من دون رعيته، أو إجابته الشهيرة عن سؤال صحافي حول احتمال زيارته قصر الشعب، حيث مقر الرئاسة السورية، حيث قال: "أين يقع قصر الشعب؟".

على أي حال، فإن المناخ الذي أرساه نداء المطارنة معطوفا على أحداث 7 و9 آب بدا الشرارة الأولى لإنطلاق قطار التحضير ليوم 14 آذار التاريخي. ذلك أن صفير قدم الرعاية والاحتضان السياسيين للقاء قرنة شهوان، الذي ما انفك يطالب بتحرير لبنان من النفوذ السوري، وهو ما تشهد عليه زيارات النائبين السابقين فارس سعيد وسمير فرنجية إلى بكركي في الفترة الممتدة بين عامي 2001 و2005.

وإذا كان حدث بحجم اغتيال بطل الاعتدال السني اللبناني رفيق الحريري أمن كل أسباب انفجار الغضب اللبناني ضد سوريا ونفوذها المتمادي، فإن الذاكرة تعترف أيضا للحريري وصفير بأنهما كرسا نهج الاعتدال في ممارسة العمل السياسي، بدليل أن عارفي كواليس تلك المرحلة يؤكدون أن القامتين التقتا على نهائية الكيان اللبناني ومحاربة الوجود السوري، ولكن أيضا على الحفاظ على التعددية اللبنانية المميزة. بدليل أن الحريري الذي يتهم بأنه فصّل الطائف على قياسه ليحكم قبضته على مفاصل الحياة الدستورية، جهد للحفاظ على الحضور المسيحي القوي في أروقة الدولة ومناصبها العليا، على رغم الاختلال الديموغرافي الذي لا يصب في مصلحة المسيحيين . غير أن الحريري لم يكن الشخصية المسلمة الوحيدة التي نجح صفير في مد الجسور معها ليتحول عن حق إلى بطريرك التعددية والانفتاح والسيادة. فالرجل ضمد جرح الاحباط المسيحي في الجبل الخارج من جهنم حرب 1983 بمد يد المصالحة التاريخية إلى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في آب 2001. ضربة "معلم" قادت جنبلاط إلى المشاركة الفاعلة في معركة 14 آذار بدليل أن سمير فرنجية تحدث من كليمنصو بلسان "المعارضة الوطنية"، مطلقا تظاهرات 14 آذار السلمية بمعرفة وغطاء بطريركيين قدمهما صفير إلى مختلف مكونات الفسيفساء الطائفية اللبنانية، وهو الذي لم يتوان عن فتح صالون بكركي أمام المعزين بالمفتي حسن خالد، في أيام الانقسام المقيت بين شرقية وغربية. فوارق لم يعترف بها ابن ريفون المتعبد للسيدة العذراء، فزار دار الفتوى، والتقى معه العلامة الشيعي محمد مهدي شمس الدين على كثير من "الوصايا"، التي تبقى أهمها نهائية لبنان وطنا لجميع أبنائه.

محطات كبيرة وكثيرة في حياة رجل صار المرادف للبنان المناضل في سبيل الحرية، وقوة الدولة. بدليل أن البطريرك الذي يقف على طرفي نقيض مع حزب الله حيال مسألة السيادة وتعدد السلاح، اعترف للمقاومة بانجاز التحرير من الاحتلال الاسرائيلي، معتبرا أن الوقت قد حان لإقفال ملف سلاح حزب الله، وإعادته إلى الدولة، كما فعل سائر المشاركين في الحرب الأهلية. ولأنه صاحب نظرة ثاقبة لا تخطئ هدفا ولا تضيّع بوصلة، لم يكذّب الزمن لصفير توقعاته في شأن إنتقال الحزب إلى فتح جبهة القتال في الداخل، وهو ماحدث في 7 أيار 2008.

عام 2011، أعيا التعب البطريرك التسعيني الذي كان ضيفا مميزا في الأروقة الدولية، صاحب الكلمة والمواقف الجريئة، من الزيارة التاريخية إلى الولايات المتحدة إلى خرق البروتوكول للصلاة لراحة نفس عميد الكتلة الوطنية ريمون إده... على سبيل المثال لا الحصر... "لقد قلنا ما قلناه"... قال الرجل كلمته ومشى... واثق الخطوة تفرد في الاستقالة من منصبه ليكرس نفسه للصلاة استعدادا لملاقاة ربه والتشفع لديه على نية لبنان الذي أحبه حتى الرمق الأخير... هذا دور القديسين والأبطال.... وكما في السماء كذلك على الأرض، تمضي بكركي في رفع الصلاة على نية لبنان، حاملة شعلة الحياد... فهي المؤتمنة الأمينة على إرث البطريرك صفير ومجد لبنان...