"البوح الممنوع"… أكثر من إفلاس!

كتب نبيل بو منصف في النهار:

ليس مأثوراً عن نائب رئيس الوزراء الحالي سعادة الشامي حب الظهور الإعلامي، بل هو كبير الخبراء الماليين الذي "يقود" العملية الوحيدة "الشغالة" للمفاوضات الحكومية مع صندوق النقد الدولي التي يبدو أنها ذاهبة الى بداية نتائج وشيكة فيما تتعطل "قيادة" العهد العوني للمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بوساطة أميركية حول ترسيم الحدود البحرية. إذن، الانطباعات التي فجّرها هذا المسؤول الحكومي الرفيع حول تعبير إفلاس الدولة ومصرف لبنان لم تكن مستغربة، خلافاً لما دأب معظم الإعلام على وصفها. وحتى مع إصدار الشامي توضيحه عن اجتزاء حديثه التلفزيوني فإن ما تركه كلامه لن يسقط بسهولة من وقائع مالية واقتصادية ثابتة وساطعة ثبوت الانهيار المتدحرج الذي يتولى نائب رئيس الوزراء التفاوض مع صندوق النقد على ما يفرمل اندفاعاته.

المسألة كان يمكن أن تنفجر مع مسؤول متحفظ أو مسؤول غير متحفظ في أيّ لحظة لأن "الصدق الممنوع" في الأخطار المالية يشبه ذاك الامتناع عن البوح الطبّي لمصاب بمرض مستعصٍ، الذي يتّبعه بعض الأطبّاء. ولا ينفع الجدل المتسع داخلياً حول جدوى البوح بالحقائق المالية أو خطورته في لجم تداعيات الواقع المتدهور يوماً بعد يوم حتى حين يمعن حاكم مصرف لبنان في نفي الحال الإفلاسية أو حين تتولى الحكومة برمّتها نفي بلوغ لبنان شفا السقوط في الهوّة الإفلاسية الشاملة.

مفاد ذلك أن واقعة كلام "مجتزأ" أو "متفلت" أو سقطة تعبيرية "هربت" بعفوية أو بزلّة لسان لم تعد تختلف مفاعيلها عن كلام متعمّد أو جرس إنذار مقصود في شأن الكارثة المالية ما دامت ثمّة وقائع أشدّ خطورة بكثير حول وضع الودائع والمصارف، والحال المالية للبلاد والأفراد والجماعات تتكشف تباعاً ولا من يملك تبريد ذعر الناس حيالها.

سواء كان سعادة الشامي عفوياً أو مخططاً لما أطلقه فإنه وفّر إطلاق موجة متقدّمة جداً من الإنذارات الجدّية حيال إفلاس صار وتحقق من زمان ويراد للبنانيين أن يمضوا في ظله بظنّ الوهم الذي عنوانه "لا داعي للذعر" على غرار ما جرى التعامل سابقاً مع مراحل الانهيار المالي الأولى ثم مع موجات تفشّي جائحة كورونا في أعتى انطلاقاتها الاجتياحية القاتلة.

لن ننتظر حتماً أن يكشف حاكم مصرف لبنان الحقائق العارية التامة في أرقام الاحتياطي غير المعلن الآخذ بالتناقص والذوبان المتسارع، كما لن ننتظر من الحكومة أن تصارحنا بشفافية بحقيقة ما يخطّط للمودعين والحجم الحقيقي للأموال المهربة بعد الانهيار وأين مسؤولية السياسيين والسلطات المصرفية والمالية… الخ من مسلسل الحقائق الفاجعة الفاضحة.

كل هذه الحقائق المخفيّة باتت الآن في عهدة "شهر واحد" وبضعة أيّام لا نملك إطلاقاً أن نتكهّن بخفة ورعونة وبأنماط مسرحية رديئة وباهتة بما ستفضي إليه فيما بدأت الحملات الانتخابية المعتمدة تتّكئ بمعظمها على خطب دعائية تظن معها أن الألف مرشح "الهاجمين" على المعركة من مختلف الاتجاهات التقليدية والحديثة هم من أجناس الملائكة. وفي عهدة هذا الشهر والبضعة أيّام ترانا نفضّل التخفيف من تضخيم وطأة الطموحات والأوهام والحسابات المفرطة في فلش التعويل على يوم 16 أيار كما لو أنه سيكون بداية لوقف كل هذا الهول الإفلاسي.

جاءت واقعة سعادة الشامي في مكانها لجهة تظهير حقيقة المعركة الانتخابية الأولى بعد الانهيار التاريخي، وباتت الخيارات الحاسمة تتصل بسؤال حصري: كيف لناخبين أن يعيدوا "مجرمين" أفقروهم وأذلوهم وأفلسوا دولتهم الى السلطة؟