الخلافات العقارية في لبنان برميل بارود ودم.. المعالجات معدومة أو مجتزأة أو التفاف على القانون

الخلافات العقارية والصراعات العقارية في لبنان تكاد تكون شاملة على مساحة لبنان، وقلما تجد اتفاقاً ورضًى بين القرى المتجاورة في إدارة مناطقها من دون نزاع بينها، وذلك نتيجة غياب المسح العقاري منذ عقود. ولا يزال عدد من المناطق اللبنانية يعتمد مسح السلطنة العثمانية، والانتداب الفرنسي، فيما لم تنجح الدولة في تحديد أكثر من 50 في المئة من المساحات.

قانونياً وتاريخياً، تمّ تصنيف الأراضي في لبنان إلى 5 أنواع: النوع الأول، الأراضي الملك، وهي العقارات في داخل مناطق الأماكن المبنية كما هي (أي المناطق) محدّدة إدارياً، والتي يجري عليها حقّ الملكية المطلقة.

النوع الثاني، الأراضي الأميرية، وهي العقارات التي تكون ملكية رقبتها للدولة، والتي يمكن أن يجري عليها حق التصرّف فقط. وملكية الدولة للرقبة، لا تظهر عملياً، سوى من خلال إجراء تخمين تعويض الاستملاك الذي يتمّ لتحقيق المنفعة العامّة، إذ إنّ مالك حق التصرّف لا يستحقّ التعويض عن رقبة الأرض. ويعود للشخص الذي له حقّ التصرّف على عقار من النوع الشرعي الأميري ثلاثة أرباع العقار، بينما يعود للدولة الربع الباقي.

النوع الثالث، العقارات المتروكة المرفقة التي تخصّ الدولة، ويكون عليها لإحدى الجماعات حق استعمال محدّدة ميزاته ومدياته بالعادات المحلية أو بالأنظمة الإدارية. وتعتبر هذه العقارات ملكاً خاصاً للبلدية، إذا كانت داخلة في نطاقها.

النوع الرابع، الأراضي المتروكة المحميّة، وهي العقارات التي تخصّ الدولة أو البلديات، وتكون جزءاً من الأملاك العامّة، وتشمل هذه الأراضي الطرقات العامة والشوارع والساحات العامّة، كما تشمل الحدائق العامّة والأسواق العامّة... وهي متروكة لاستعمال الجميع استعمالاً عادياً وليس للأفراد حق انتفاع خاص بها.

النوع الخامس، العقارات الخالية المباحة أو الأراضي الموات، وهي الأراضي الأميرية التي تخصّ الدولة، إلاّ أنه لم يجرِ التعرّف عليها أو تحديدها، فتُصبح لمن يشغلها أولاً، بموجب رخصة من الدولة، مع حق أفضليّة فيها ضمن الشروط المعيّنة في أنظمة أملاك الدولة. وتعتبر هذه الأراضي من أملاك الدولة الخاصّة، حيث إنّ هذه الأخيرة تضمّ الأراضي الخالية والأحراج والغابات والجبال، وبالجملة جميع الأملاك غير المنقولة التي تشملها في القانون لفظة الأراضي الموات.

وما يسمّى مشاعات في عصرنا الحاضر في لبنان تشمل قسماً من الأراضي الأميرية، وجزءاً من الأراضي المتروكة المرفقة، والأراضي المحمية بكاملها.

وأشارت دراسة لمؤسّسة "ستوديو أشغال عامّة"، صادرة في أيار 2023، إلى أنّ "الأراضي الأميرية" تُشكّل النسبة الكبرى من أملاك الدولة العقارية، إذ يبلغ عددها على صعيد لبنان 31907 عقارات، أي ما يشكّل 52 في المئة من إجمالي هذه الأملاك. يشتمل قضاء بعلبك وحده على أكثر من 33 في المئة من مجمل الأراضي الأميرية، وحوالى 23 في المئة منها في قضاء البقاع الغربي، و17 في المئة في قضاء راشيا، و7 في المئة في قضاء عكار، ممّا يعني أنّ 80 في المئة من الأراضي الأميرية تتركّز في البقاع وعكار. هذا التركّز ما هو إلا نتاج تاريخيّ لما كانت عليه الملكيات العقارية أيام العهد العثماني.

من الملاحظ أن أغلب المحافظات تواجه مشكلات إلا منطقة جبل لبنان؛ وذلك يعود إلى أنه في أيام السلطنة العثمانية كان لمنطقة جبل لبنان الممتدّة من بشرّي إلى جزين حقّ إدارة ذاتيّة. فالحاكم العثماني ترك لأهالي هذه المنطقة إدارة أحوالهم وأموالهم، أي ترك لهم الإبقاء على أنظمة أحوالهم الشخصيّة، كما ترك لهم ملكيّتهم لأموالهم المنقولة وغير المنقولة، حسب ما كانت هذه الملكيّة قائمة. أمّا بقية المناطق، فاعتبرها السلطان ملحقة بالسلطنة، واعتبر أراضيها أراضي أميريّة، أي تخصّ الحاكم، وهذا ما يفسّر أيضاً أن الإشكالات تقع على حدود محافظة جبل لبنان مع المناطق الأخرى، وليس ضمن المحافظة المملوكة بنسبة مئة في المئة.

ومع عدم تقديم أيّ مخرجات للحلول، تتطوّر الأمور كلّ مدّة بين منطقة وأخرى، وهي تأخذ منحى أكثر تطرّفاً عندما يدخل العامل الطائفي في الموضوع، من دون تصغير حجم الإشكالات التي تقوم ضمن مناطق من لون طائفيّ واحد كعكار العتيقة وفنيدق، هذا بالإضافة إلى الحدود الطويلة غير المرسّمة بين لبنان وسوريا وما تخلّفه على طولها من إشكالات بشكل دائم.

وفي تفصيل للنزاعات يمكننا البدء بمحافظة بعلبك الأقل ترسيماً، والتي تتكوّن اليوم 80 في المئة من أراضيها، أي ما يُعادل حوالى ثلث مساحة لبنان، من الملكيّات المشتركة أو من إدارة غير عقارية للأرض. وفي بلدات القاع ويونين والهرمل، الأراضي موزّعة بالقيراط، وهي وحدة قياس مساحة معتمدة من أيام الدولة العثمانية، تقسم مساحة العقار على العدد الإجمالي لمساحة القرية أو البلدة بالقيراط المحدّد فيها حسب سجلات الدولة. منذ التقسيمة الأولى في العهد العثماني، ما يزال شكل الأراضي متراً بالعرض وألف متر بالطول، وميزان الأرض هو القيراط وليس المتر المربع. وهو نظام زراعيّ بامتياز، لمستخدميه حقوق تصرّف (وليس حقوق ملكية)، وتمّ حلّه في كافة الأراضي اللبنانية باستثناء القاع ويونين والهرمل.

مع مرور الوقت، بدأت تشهد هذه المناطق تصادماً، وجرت عدة محاولات لفرز العقارات. وفي العام 1997، خصّص مجلس الوزراء اعتماداً من موازنة الحكومة لإطلاق مشروع ضم وفرز عام ليونين والقاع والهرمل. تألّف المشروع من تنزيل جميع المستحدثات على خرائط المساحة، وتحضير ملفات محتويات العقارات، والقيام بمشروع الإفراز ودراسة شبكة الطرقات، ووضع حدود العقارات المستحدثة على الأرض وتنظيم محاضرها وخرائطها، إلا أن العمل لم يصل إلى نتيجة حتى السّاعة، وما تزال الأمور تراوح مكانها.

ومن البقاع إلى جبل لبنان حيث الخلاف الأشرس بين اليمونة والعاقورة، وقد شهد أحداثاً دموية عام 1967. وعلى الرغم من التدخّلات التي جرت في جميع العهود، فإنها فشلت في حلّ النزاع. وخلال ولاية الرئيس ميشال عون الأخيرة، أنشئت لجنة من "حزب الله" ومن "التيار الوطني الحر" وفاعليات المنطقة، طرح فيها عدد من الحلول، خصوصاً أنه من الناحية القانونية تعتبر هذه المنطقة هي الأسهل نتيجة الترسيم الجغرافيّ المحدّد بين المحافظات، ووجود خرائط مرسّمة، لكونها كانت ضمن منطقة جبل لبنان المرسّمة، إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل، ما تزال المنطقة تشهد مناوشات وإطلاق نار بين الحين والآخر، والأمور متروكة و"فالتة" للأقوى. وما يجري على صعيد اليمونة - العاقورة، يحدث على مستوى اليمونة - تنورين، حيث يتّهم أهالي تنّورين أهالي اليمونة بالسيطرة على أراضي بلدتهم بحكم السلاح وقوى الأمر الواقع.

وفي جبل لبنان قضية متفجرة أخرى هي قضية #لاسا، التي تأخذ أبعاداً طائفية متفجّرة بين الحين والآخر، وهي من الملفات العالقة التي لا حلّ لها. والمشكلة الرئيسية في هذا الأمر هو دخول البطريركية المارونية على خط الخلاف عبر إبراز مستندات تثبت امتلاكها للأراضي المعتدى عليها. الخلاف في لاسا مضت عليه أعوام طويلة، ولم يُحلّ. وبعد كلّ حادث، تتحرّك لجان، وتُعقد اجتماعات، وحتى بين الكنيسة و"حزب الله"، وتطرح حلول من دون فائدة. علماً بأن البطريركية تتّهم عدداً من الأهالي بتشييد منازل على أرض ليست ملكاً لهم.

وفي هذا الإطار، يقول النائب السابق فارس سعيد إن "موضوع لاسا قديم، ويعالج دائماً بشكل مجتزأ، وليس وفقاً للاصول والقواعد"، مؤكداً "أن المالك في لاسا اسمه الكنيسة المارونية، وفي أي مكان هناك مالك آخر يمتلك عقاراً أو أرضاً مسجّلة وممسوحة ولديه صكّ أخضر صادر عن الدوائر العقارية في لبنان"، لافتاً إلى "أن الاعتداء في لاسا هو اعتداء على الملكيّة الفردية التي تملكها الكنيسة المارونية، وبالتالي ليست أراضي محلّ نزاع كما يقول البعض، إنما أراض مملوكة وممسوحة، وفيها وثائق ملكية صادرة من دوائر القرار".

واعتبر أنه عندما يكون هناك اعتداء على الملكية الفردية يظهر بوضوح من هو المالك ومن هو المعتدي. وبالتالي، لا يمكن حلّ هذه المسألة بأن يذهب المالك إلى طاولة مفاوضات مع المعتدي. فالأصول تقتضي أن يذهب الاثنان إلى القاضي العقاري، وأن يبرز كلُّ فريق أوراقه كي يبتّ في هذا النزاع، إن كان هناك من نزاع".

أضاف سعيد: "منذ العام 2000 حتى اليوم يتكلمون عن موضوع لاسا، ويذهبون للالتفاف على القانون والقضاء ويشكّلون لجان حوار، لكن اللجان لا تعطي الحق لأصحابه، بل هي مؤلفة من أجل الالتفاف على الحق والقانون وتزوير الحقيقة، لأن حجم الاعتداءات الموجودة في لاسا ثلاثة أنواع: يدفنون، ويزرعون، ويبنون البنايات على أرض الكنيسة".

وتابع: "أتى رئيس المجلس النيابي نبيه بري بعد انتخابات الـ2018 واتفق مع نواب منطقة جبيل وكسروان بأن الاعتداءات الموجودة اليوم على أرض لاسا يجب تشريعها والتسليم بها لمن اعتدى مقابل أن يتسامح أهالي لاسا مع ما تبقى من الأرض. رفضنا هذا التدبير، ونستمر برفضه حتى اليوم؛ وإذا كان هناك من يبحث في إعادة إنشاء هذا الترتيب، فسنتصدى له كأولاد منطقة وكمالكين. وبعدها شكّلت عدة لجان لحلّ هذا الأمر.. جميعها فشلت لأنّ للأرض من يملكها".

ومن جبل لبنان إلى عكار حيث تكثر الخلافات برز الخلاف بين "بيت جعفر" وعندقت، والسبب نفسه هو غياب الترسيم مع "رشة" طائفية، حيث يتهم أهالي عندقت تحويل أذونات رعي المواشي القديمة إلى صكوك ملكيّة والبناء على الأراضي.

آخر الإشكالات وقعت في تشرين الماضي عدما شيّد أحد المواطنين من آل جعفر بناءً في منطقة تعتبرها عندقت ضمن مشاعاتها، ممّا دفع الأهالي إلى إقفال الطريق الذي يوصل عكار ببعلبك الهرمل، لتتطور الأمور وسط تهديدات متبادلة، قبل أن يتمّ التدخّل من القاضي علي إبراهيم، ويتّخذ قراراً بهدم المخالفة. وعلى الرّغم من أن البناء المخالف لم يُهدم، فقد توقف استكماله. وبهذه الطريقة تكون حلّت المخالفة مرحلياً من دون حسم، ممّا يترك الباب مفتوحاً على إشكالات أكبر في القريب العاجل.

من عندقت وبيت جعفر إلى عكار العتيقة وفنيدق حيث الخلاف العقاري على ملكية المشاع المتلاصق وترسيم خراج البلدتَين يعود إلى السبعينيات، ولم تنجح الأحكام القضائية، التي لم تنفّذ في إنهائه. يتمسك أبناء عكار العتيقة بملكيتهم للأراضي بموجب سندات منذ عام 1911، فيما يؤكّد أبناء فنيدق أن "القمّوعة خط أحمر" وأن الحدود مرسومة طبيعياً. ولم تنجح وساطات الفاعليات السياسية والدينية في الوصول إلى نتيجة مقبولة من الجانبين، وتشهد المنطقة عمليات قتل وخطف.

وأخيراً، خلاف القرنة السوداء أو قرنة الشهداء، بين بشري وبقاع صفرين، الذي حكي فيه الكثير، تعتبر كل جهة أن لها ملكاً مقدساً في تلك البقعة الجردية. فأهالي بشري يملكون الوثائق والمستندات بحسب تعبيرهم، التي تؤكد ملكيتهم للقرنة، فيما أهالي الضنية يعتبرونها أرضاً مقدّسة، فـ"إذا مكة تتزحزح من المملكة، القرنة تتزحزح من الضنية" بحسب ما قال النائب جهاد الصمد في حملته الانتخابية. وعلى غرار الخلافات السابقة لا حلّ في الأفق بهذا الشأن، حتى اللجنة التي شكلها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتحاول إيجاد حلّ تم تجميدها نتيجة الاعتراضات.