من ترسيم القرنة إلى ترسيم الأزمة

كشفت الحادثة التي انفجرت في الأيام الماضية، على سفوح القرنة السوداء في منطقة بشري والأرز، وأدت إلى سقوط ضحيتين من آل طوق في جرود بلدة بشري الشمالية، عن حجم الملابسات والتعقيدات والتداخلات والحساسيات التي يكتنفها لبنان على مختلف الصعد.

فلم يكن يخطر على بال أحد أن أزمة بهذه الخطورة قطعت أنفاس اللبنانيين، خوفاً وقلقاً، وشدت أعصابهم، لما قد ينجم من تداخلات وتعقيدات عقارية بين قرى ومناطق لبنانية واحدة، تعتبر من أجمل مناطق لبنان، بل أجمل مناطق العالم. إذ أن موطن شجرة الأرز شعار لبنان وشخصيته ورمزه، ظهر أنه من أصعب المناطق والمساحات الجغرافية في هذا البلد.

وقد كانت مسارعة الرئيس نجيب ميقاتي إلى تجميد عمل اللجنة المشكلة لدراسة الإشكالات العقارية في أكثر من منطقة في جبال لبنان في مكانها، إلا أن هذا التجميد لم ولن يساهم في حلحلة المشكلة-الأزمة التي انفجرت في منطقة القرنة السوداء في الأيام الماضية، وكشفت عن تعقيدات لبنانية إضافية فوق التعقيدات المعروفة، والتي باتت بحاجة إلى مطولات غير محدودة لشرحها وتفسيرها والوقوف على تعقيداتها.

فمشكلة التداخل العقاري بين المناطق والقرى والطوائف في أكثر من منطقة، ظهر أنها خطيرة وكبيرة وحساسة أكثر مما كان يعتقد.

والمشكلة التي ظهرت اليوم هي في جذورها موجودة منذ ما قبل لحظة قيام لبنان وقبل تأسيس الجمهورية.

جوهر الموضوع الذي فاقم التعقيدات، يكمن في أن الدولة اللبنانية لم تقم منذ ولادتها وانطلاقتها وبداية عملها بواجباتها كاملة. وهو ما تسبب بوجود نوع من الأفخاخ والحفر والثغرات تنفجر بالمواطنين والمناطق بين فينة وأخرى.

فقد تأسس السجل العقاري الحديث في لبنان في مرحلة الانتداب الفرنسي، وقامت دوائر المساحة والتحديد اعتباراً من العام 1926 ولغاية العام 1946 بمسح نحو 50% من الأراضي اللبنانية، خصوصاً في مناطق الساحل اللبناني والمدن.

لم تستكمل ولم تستطع الدولة اللبنانية لا في الجمهورية الأولى ولا في مرحلة الجمهورية الثانية من القيام بأعمال المساحة والتحديد لأكثر من 20% من مساحة لبنان. يعني ذلك أن حوالى 30% من أراضي لبنان لا تزال غير ممسوحة وغير محددة. وهي موزعة على مجمل مساحة الجمهورية اللبنانية، من الجبل إلى الجنوب والشمال والبقاع. وهي ما يعادل ثلث الأراضي اللبنانية.

الإشكال الأخير الذي وقع في جبال الأرز وحمل حساسيات وإشارات طائفية ومناطقية، لم يكن الإشكال الدموي والمناطقي الأول. كان قد سبقه بيومين إشكال آخر لم ينفجر إعلامياً، وقع بين فنيدق وعكار العتيقة، وأدى إلى سقوط قتلى من الانتماء الطائفي ذاته.

هذه الحالة الحساسة الحاملة للتناقضات، موجودة أيضاً على سبيل المثال بين الحازمية وبعبدا، وتنورين ومناطق العاقورة من جهة، ومنطقة اليمونة البقاعية من جهة أخرى. كما وفي مناطق جرد جبيل بين لاسا وغيرها من القرى، ولكل منطقة حساسياتها ومشكلاتها وسرديتها وتعقيداتها.

هذه المشكلات تنطلق من قمم الجبال في بشري لتصل إلى منطقة جزين. وهناك مشاعات ومناطق عقارية لا تزال غير ممسوحة أو محددة، ومحاطة بالخلافات والصراعات والتعقيدات، مما يحتم ضرورة معالجة هذه المشكلة الحساسة والمعقدة، لنزع فتائل التفجير والحساسيات المناطقية الدائمة الوجود بين القرى والبلدات والمناطق.

الوقائع التي سجلتها الأحداث خلال السنوات الماضية، أن محاولات عدة جرت وفي أكثر من منطقة من قبل أطراف متعددة، تستند إلى القوة والسلاح والظرف المناسب، لوضع يدها و"السلبطة" على مساحات وأراض في أكثر من منطقة، من الجنوب مروراً بالجبل الجنوبي وكسروان وجبيل وصولاً إلى بشري وجرود الأرز والقرنة السوداء، ناهيك بمناطق البقاع ومحيطه. وهو المنطقة الأكثر معاناة مع مشكلة غياب المسوحات الدقيقة والملكيات والحدود الواضحة.

مما لا شك فيه أن المشكلة الأخيرة طرحت أكثر من علامة استفهام حول ما جرى، إضافة إلى أسئلة حول وجود خلفيات ونوايا مبيتة، أو خلفيات سياسية، خصوصاً أن الخلاف يتصل بمناطق قد تثير حساسيات طائفية بين المسلمين والمسيحيين، بشري من جهة، وبقاع صفرين والضنية من جهة أخرى.

من هنا، فإن الدور الذي يتولاه الجيش في التحقيق في هذه الحادثة، يعتبر من أهم الأدوار. وحتى الآن، وبالرغم من مرور أيام على الحادثة، لا أحد يملك رواية متكاملة عما جرى وخلفياته وأسبابه. علماً أن البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي قال كلاماً قوياً جداً وواضحاً. إذ قال: نحن نعرف من هو القاتل، وما جرى هو أكثر من حادثة!

 

باختصار، إن التحقيق الذي يتم الآن من شأنه إخماد مشكلة كبيرة أو إشعال أزمة عميقة، تبدأ بالعقارات والأراضي وقد تنتهي بالطوائف والمذاهب والتناحر الأهلي.

في الأيام الماضية، وفي أكثر من اتجاه، ظهرت تحليلات متعددة تربط بين الصراع السياسي المندلع حول انتخابات رئاسة الجمهورية والمحاور السياسية المتواجهة، وبين ما جرى في القرنة السوداء!

السؤال هل سينجح الجيش والقوى الأمنية والقضائية في كشف ملابسات ما جرى في القرنة السوداء، والانطلاق لترسيم حدودها، واحتواء أزمة الترسيم والمسح العقاري، أم أن أزمة سياسية طائفية مناطقية قد تنفجر، وتطيح بالخيوط والحدود والجبهات؟ أم أن الحقيقة ستبقى ضائعة ومائعة، كما في أغلب الملفات الخطيرة في لبنان.