الخوف يستوطن أزقّة طرابلس: البلدية تتحدّث عن 700 مبنى مهددًا والرقم النهائي أعلى بكثير

كتب بشير مصطفى في المفكرة القانونية: 

“اللغة الإنشائية والخطابات لن تقينا شر السقوف المتهالكة، نحتاج حلولاً تحمي حياتنا” عبارة يختصر بها أحد المواطنين مطلب سكان طرابلس القديمة حيث يوجد مئات الأبنية المتصدعة والمهددة بالانهيار في أي لحظة. تتحوّل مشكلة تلك الأبنية إلى قنبلة موقوتة تعرّض السلامة العامة للخطر وليس سلامة ساكنيها فحسب، وقد تمظهر ذلك مؤخرًا بعد الهزّات التي تعرّضت لها البلاد إثر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا، حين غادر الناس بيوتهم وباتوا ليال عدة في أماكن مفتوحة. وقبل الهزّات كان الزمن كفيلًا بأن يزيد من فداحة أوضاع الأبنية ما أدّى إلى سقوط بعضها أو أجزاء منها على غرار ما حصل خلال عام 2022 في ضهر المغر في تاريخ 26 حزيران 2022 حين انهار مبنى سكني مؤلف من 4 طبقات وفي تاريخ 2 تشرين الثاني 2022 حين سقط سقف مدرسة الأميركان في جبل محسن وقتل الطالبة ماغي محمود. وقبلهما انهيار سقف مبنى الفوّال في الميناء ومقتل الشاب عبد الرحمن كاخية وشقيقته راما في تاريخ 10 كانون الأول 2019. 

قبل الهزّات الأخيرة، ووفق مسح أجرته بلدية طرابلس بالتعاون مع المديرية العامة للآثار، بلغ عدد المباني المتصدّعة نحو 236 مبنى هي 139 مبنى باطوني و97 مبنى تراثي في أنحاء المدينة التاريخية. ولكن بعد الهزات الأخيرة أعلن رئيس بلدية طرابلس المهندس أحمد قمر الدين أنّ عدد المباني المعرّضة للانهيار في طرابلس بسبب التصدعات هو حوالي 700 مبنى، 10% منها تشكل خطرًا على ساكنيها، موضحا أنّ “سبب التصدعات لا يعود إلى الزلزال إنما الخطر ارتفع مع الهزات الارتدادية”.

ويعتقد المهندس وسيم ناغي أنّ “الأرقام قد تكون أكبر بكثير مما يتم إعلانه رسمياً. ولا أحد يمتلك رقماً نهائياً للأبنية المتصدعة لا في لبنان بشكل عام وطرابلس بشكل خاص”. 

على أي حال فإنّ بلديتي طرابلس والميناء وكذلك المديرية العامة للآثار في طور إجراء مسوح جديدة للأبنية، سيتحدد على أساسها حجم الخطر والضرر الذي يطاول المباني في المدينة بما فيها التراثية خصوصًا بعد الهزّات الأخيرة. 

الخوف يستوطن الأزقّة
في الأزقة الممتدة من الحدادين، المهاترة، النوري، الزاهرية، وصولاً إلى الحديد، ضهر المغر وباب التبانة، يستوطن الخوف المنازل المصنّفة بغالبيّتها تراثية. ولا يحتاج الكثير من منازل تلك الأحياء إلى كشف هندسي لتبيان درجة الخطر فيها، البعض منها مهجور وتتساقط أجزاء منه باستمرار بفعل عدم الصيانة، وإهماله من مالكيه. أما البيوت المسكونة فتعاني من شقوق واضحة في الجدران والسقوف، وتهالك الشرفات، بالإضافة إلى مظاهر النش والرطوبة في أغلبها. كما كان ملحوظاً وجود إضافات على بعض البيوت الحجرية، لتتّسع لأفراد العائلة. 

تتشابه الروايات والشكوى على ألسنة الأهالي، ويروي بلال (أحد مالكي البيوت القديمة في ضهر المغر) لـ “المفكرة القانونية” المسار الطويل لترميم المنزل، فبعد انهيار المبنى في ضهر المغر تنبه الأهالي إلى خطورة الأمر، وبدأت العائلة تبحث عن الآلية لترميم منزلها القديم، وإصلاح النش والتشققات. قصدت العائلة البلدية فكان الرد أنّهم لا يملكون  القدرات الكافية للترميم، ولكن يمكن أن تساعد البلدية في التدعيم. عندها بدأت العائلة البحث عن مصدر للتمويل من قبل المقرّبين والمغتربين، واستعانت بأحد المهندسين للحفاظ على العقود والحَجَر. يشير الشاب إلى أنّ العائلة فطنت لأهمية الترميم وعدم تركه يتدهور، إلاّ أن أغلبية البيوت في المنطقة متروكة لمصيرها، وهو ما تؤكّده جولتنا الميدانية. نتّجه صعوداً إلى أحد المباني المقابلة لـ “المقام في عقبة الحمراوي”، كان الوضع دقيقاً، السلالم الحجرية ترتجف، فيما التشققات والتسلّخات واضحة في الأسقف. يتكرّر على ألسنة الأهالي أن ليس لديهم قدرة على ترميمها، وهي بيوت مسكونة وفق عقود “إيجار قديم” ويتناسب بدل سكنها مع مداخيلهم المحدودة، ولا يجد هؤلاء بديلاً عنها، لأن الإجار السكني في أنحاء كثيرة من طرابلس أصبح بالدولار. ناهيك عن العامل النفسي الاجتماعي، حيث يقول عبد الرحمن إنّه ينتمي إلى عائلة ولدت وترعرت في هذا المحيط، واعتادت على حياة الأحياء الشعبية، وستجد صعوبة في الاندماج ضمن بيئة اجتماعية مختلفة.  

أسباب الخطورة متعدّدة
تتعدد أسباب تصدّع الأبنية في طرابلس، ويوضح المهندس علي الحنّاوي  في حديث لـ “المفكرة” أنّ هناك سبب يتّصل بعدم تطبيق المعايير العلمية أثناء عملية بناء بعض الأبنية، وهذا الأمر ينطبق على الأبنية المخالفة التي استعجل مالكوها تشييدها أثناء فترة الانتخابات، بفضل الرشى الانتخابية ومستغلّين حال الفوضى قبل أن تأتي التسويات لتجعلها أمرًا واقعًا عبر قوانين آخرها كان عام 2019 ومُدّد العمل به في موازنة 2023 ويرمي إلى تسوية مخالفات البناء الحاصلة خلال الفترة الممتدة من 13/9/1971 ولغاية تاريخ 31/12/2016 ضمنًا. أما السبب الآخر فيتعلق بالمباني التي تتصدع بفعل كارثة أو حرب، ويعطي الحناوي مثالاً ما حدث إبان حرب تموز أو انفجار مرفأ بيروت، ومؤخرًا الهزّات التي ضربت لبنان أو التي طالته من زلزال تركيا. أما السبب الثالث فيتصل بالأبنية القديمة والتراثية المتروكة من دون صيانة أو ترميم ما يؤدّي إلى تدهور أوضاعها أكثر. 

تجتمع على أرض مدينة طرابلس الأسباب المختلفة، من هنا يدق الحناوي ناقوس الخطر “لا سمح الله في حال وقوع أي زلزال (مركزه لبنان) لو كان متوسّطاً سنكون أمام نتائج كارثية”، معبّراً عن أسفه لغياب سياسة الوقاية  التي تستبق وقوع أي نكبة في لبنان.     

المسؤولية الضائعة
يتصل موضوع الأبنية المتصدعة بصورة مباشرة بملف السلامة العامة. وعند مقاربته، نجد أننا أمام مشهد متشابك، فمن جهة هناك مسؤولية مالك العقار الذي يمتنع في أغلب الأحيان عن الترميم، لأنّ عقد الإيجار ممدَد وينتمي إلى فئة “عقد الإيجار القديم”، وعائداته المالية ضئيلة جداً، وقد تراجعت قيمتها مع الانهيار المالي. ويؤكد بعض مالكي مبان قديمة أنّ الإيجار السنوي لا يتجاوز 15 دولارًا في أحسن الأحوال. في المقابل، هناك مستأجر “متواضع الحال”، لا يعمل أو في أحسن الأحوال لا يكفيه أجره اليومي لشراء الخبز لأطفاله، فكيف له بترميم منزل قديم مليء بالعقود الحجرية، والواجهات الزجاجية والخشبية. هناك عائلات تعيش في غرفة “شبه آمنة” في مبنى متهدّم جزئياً في منطقة المهاترة بسبب عدم وجود البديل، وهنا يُطرح سؤال عن دور الجهات الرسمية المسؤولة عن المباني التراثية، ودور البلديات، والمديرية العامة للآثار، وفي حال سقوط المبنى: الهيئة العليا للإغاثة التي تتدخل بناء لطلب مجلس الوزراء. 

يؤكد اللواء محمد الخير رئيس الهيئة العليا للإغاثة (أجريت المقابلة قبل الزلزال الأخير) أنّ الهيئة لا تتدخل إلاّ بموجب قرار من مجلس الوزراء، متحدثاً عن شروط عدة لهذا التدخل تتلخص بـ”أن يكون مرسوم التكليف واضحًا، تحديد الجهة الملتزمة التطبيق، وتأمين الاعتمادات المالية”، مؤكداً أنّه في غياب أي عنصر من العناصر لا يمكن لأي إدارة القيام بواجباتها”. يلفت الخير إلى أنّ تدخل الهيئة يأتي بصورة لاحقة لوقوع الحادث، جازماً أنّ “التدخل الإغاثي في الأحياء الشعبية الفقيرة في طرابلس وفي أي منطقة لبنانية أخرى يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء”. كما يتحدّث عن السند القانوني الموجب لأعمال الترميم، فالقانون 646 يلزم كل صاحب عقار بصيانته ويسائله في حال تشكيله خطر على السلامة العامة، وفي حال عدم قدرة المالك على القيام بأعمال الصيانة والترميم، تتولى البلدية مهمة الترميم وجعله “دينًا ممتازًا” على عاتق المالك. 

يعرب الخير عن أمله في الوصول إلى حل مستدام للأبنية التراثية، وتلك المهددة بالسقوط. ويطالب بـ “إعلان حالة الطوارئ في طرابلس، واستدعاء كافة المنظمات الدولية، الجمعيات، والجهات المانحة للترميم، على غرار ما جرى في بيروت عقب انفجار المرفأ في 4 آب”. ويقول إنّ “المباني المتصدعة في طرابلس بحاجة إلى إنشاء صندوق خاص لتمويل أعمال الترميم، وخلال عامين قد نجد مدينة مختلفة”، وكذلك إلى “إصدار مرسوم يُلزم مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال بتخصيص جزء من القروض لترميم المباني التي تشكل خطراً على السلامة العامة”. 

يعود اللواء الخير في معرض حديثه عن محاولات الحل إلى مرسوم صادر عن مجلس الوزراء في تاريخ 24/1/2022، حيث تمّ تأليف لجنة برئاسة وزير الداخلية، وعضوية وزراء المالية، العدل، الأشغال العامة والنقل، ووزير الثقافة، وتمّ تعميمه على كافة الإدارات والبلديات لدراسة أوضاع الأبنية المتداعية والمتصدعة، ورَفع الاقتراحات العملية لمعالجة المشكلة. ويستدرك “إلّا أنه وبعد مرور عام لم يطبق شيء  منه”. كما يتطرق الخير إلى أهمية وجود إحصاء لبدء العلاج لأنه في غيابه سيبقى الحل غائباً، معطيًا مثالًا المسح والإحصاء بعد انفجار مرفأ بيروت، وهو أنجز خلال مهلة 15 يوماً بالتعاون مع شركة خطيب وعلمي وبمشاركة 150 مهندسًا، حيث تمّ مسح وضع كافة المدارس، والمستشفيات، والمباني المختلفة.   

ومجددًا بعد الزلزال الأخير، تمّ تكليف وزارتيْ الداخلية والبلديات والأشغال العامّة تولّي المسوحات على الأبنية المتصدعة بالتنسيق مع البلديات ونقابتيْ المهندسين في بيروت وطرابلس. إلا أنّه حتّى الساعة لا يظهر أيّ عمل جدّي للمعالجة على الأرض، خصوصًا مع رفع البلديات الصوت للتأكيد على افتقارها للموارد المالية والبشرية للتصدي لهذه المهمة. 

بلدية طرابلس والإمكانيات المحدودة 
من جهته، يعترف المهندس أحمد قمر الدين رئيس بلدية طرابلس بفداحة المشكلة مقارنة بحجم القدرات المتوافرة لدى البلدية، كاشفًا أن “طلبات الترميم أقل بكثير من عدد الأبنية المتصدّعة، لأنّ البلدية تفتقر إلى  فريق العمل الكافي والمؤهل للكشف على كافة أنحاء المدينة”. وأشار إلى “العمل مع نقابة المهندسين لتأمين فريق متطوّع للكشف على الأبنية المتضررة التي أبلغ سكانها بأنها سيئة الحال ومهددة بالسقوط”. ويقول إنّ “قدرات البلدية غير كافية للكشف على جميع الأبنية المتصدعة التي يقع أغلبها في المدينة القديمة نظراً لانعدام الصيانة، ولكن عند إبلاغ البلدية يتجه فريق من دائرة الهندسة للكشف عن المبنى ووضع تقارير يتحدّد على ضوئها مدى الحاجة  لإخلائه أو إن كان يكفي إجراء بعض خطوات الترميم أو التدعيم”. 

يستدرك قمر الدين أنه في فترة 2016-2017 خاضت البلدية تجربة للكشف على المباني المتصدعة في طرابلس بالتعاون مع الأمم المتحدة، ويمكن أن يعوَل عليها، محملاً “الإيجارات القديمة مسؤولية تدهور حالة المباني واعتكاف المالكين عن الترميم بسبب ضآلة الدخل. كما أنّ هناك مالكين قد يتمنّون سقوط المباني للانتفاع من العقار وإقامة بناء جديد”. وقال إنّ “البلدية تمنع أي تدخل أو تعديل – ترميم في المباني التراثية قبل الاستحصال على كتاب رسمي واضح من المديرية العامة للآثار في وزارة الثقافة”.  

ويشير قمر الدين إلى تعاون  البلدية  سابقاً مع الهيئة العليا للإغاثة في إطار مشاريع محددة لإخلاء بعض المباني لقاء تقديم بدلات سكن ريثما يتمّ إصلاح  البيوت وترميمها، ولكن حالياً أصبحت الإمكانيات المالية سيئة”. ويكشف عن تعاون مع نواب طرابلس لإيجاد حل جزئي، “هناك فكرة بأن تقدم البلدية قطعة أرض لبناء وحدات سكنية، ومن ثم تقسيم طرابلس إلى وحدات، تُخصص لإسكان قاطني الأبنية المهددة ريثما تُنجز أعمال الترميم، وتتكرر العملية وفق الحاجة، إلّا أن الأمر متوقّف على تأمين الإمكانيات المالية”.   

بعد الزلزال الأخير الذي دفع العديد من الأهالي إلى الخروج من بيوتهم مخافة سقوطها على رؤوسهم، تم تشكيل لجنة تطوعية بالتنسيق بين دائرة أوقاف طرابلس والمديرية العامة للآثار ونقابة المهندسين وبلدية طرابلس ومركز الترميم والحفاظ على الأوابد التاريخية في الجامعة اللبنانية وبالشراكة مع الجمعية اللبنانية لدعم البحث العلمي LASeR وجمعية الإرشاد الخيرية ICA وحراس المدينة، لإجراء مسح شامل للأبنية المتضررة في مدينة طرابلس، ومن ثمَّ حصر الإنشاءات المتداعية للسقوط أو التي تشكل خطراً على السلامة العامة. وتمّ التعميم على المهندسين المختصين المهتمّين استمارة لتعبئتها، وتم تعميم استمارة على الأهالي للتبليغ عن الأضرار. 

مؤتمر الأبنية المتصدعة في طرابلس
حرّكت قضية الأبنية المتصدّعة المجتمع المدني ونقابة المهندسين في الشمال التي عقدت مؤتمراً بهذا الخصوص، يوم السبت 21 كانون الثاني 2023، بمشاركة وزير الداخلية بسام المولوي ورعايته. سعى المؤتمر الذي حمل عنوان “الأبنية المتصدعة في طرابلس” إلى تشخيص المشكلة المتعاظمة، وأظهرت مواقف الحاضرين الرسميين عجزاً رسمياً مزمنًا في معالجة الملف. فلم يقدِّم نواب المدينة، ورئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير، ورئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، ومدير عام الآثار سركيس خوري، أي أفق للحل على المدى القريب، لا بل جاءت المواقف لتؤكّد الأثر الكبير للانهيار المالي على أي خطوات ملموسة، ممّا دفع بالمهندسين وأصحاب الخبرة العلمية إلى اقتراح حلول مؤقتة، قد لا تتخطى، في الظروف الحالية وخضم المشكلة، الأساليب الترقيعية المعتادة في لبنان. 

في كلمته، حافظ وزير الداخلية، ابن طرابلس، بسام المولوي، على المقاربة التشخيصية العمومية لملف الأبنية المتصدعة، وكرر الحديث عن العمل على “تجاوز الأزمات”، و”العمل لتنمية المناطق وجلب الاستثمارات وفرص العمل”، كما أشار إلى أنّ “مدينة طرابلس في غربة عن أهلها، حيث هَجَرها أهلها أو هجّروا منها، واستوطنها الغرباء، وباتت مدينتنا الأصيلة لا تشبه الأصلاء من أهاليها”. ولفت إلى أنّ “مسؤولية الدولة تكمن في وضع خطط وتشريعات صحيحة”. وشدد على أنّ جغرافيا وعقارات المواقع الأثرية في لبنان هي ثروة، مؤكّداً أنّ المحافظة على الأبنية التراثية وترميمها هو حفاظ على هوية لبنان، داعيًا إلى تطبيق القوانين المتصلة بالأبنية التراثية والمتصدعة في كل لبنان، متحدثاً عن “مسؤولية مشتركة لا تتقاذفها الجهات المختلفة”. وتساءل عن “وجوب معاقبة من لا يقوم بالترميم بصورة دورية أو من يترك بناءا لمصيره لغاية معينة”، مضيفاً “أين أحكام المسؤولية الموضوعية؟ وما مصير التهرب من تسجيل العقود المتصلة بتلك الأبنية بغية التهرب أو التضليل للتهرب من المسؤولية؟”. كما سلط الضوء على دور المواطنين في مساعدة البلديات في ظل الأزمة “حيث قلّت مواردها وانحبست أو اندثرت ودائعها”. وطالب المولوي النواب بالتعاون لإقرار التشريعات اللازمة، كما قال “لتكن لدينا جميعًا الجرأة على تطبيق قرارات الإخلاء حفاظًا على أرواحنا جميعاً”. من هنا، دعا دوائر الهندسة في البلديات للإسراع في الكشف على كافة الأبنية التي ساءت حالتها الإنشائية لتقرير الخطوات المناسبة بالتعاون مع السلطات القانونية. 

من جهته، أسف نقيب المهندسين بهاء حرب  لوضع الأبنية التراثية في طرابلس والتي تشهد على عراقة المدينة والزمن الجميل، مطالباً بالصيانة الشاملة الفورية للمباني، وتحديداً لمبنى كلية الحقوق وهو “مبنى مملوك من النقابة ومحتل من دون عقد إيجار أو بدل إيجار” بعلم من إدارة الجامعة اللبنانية، وهو مبنى متصدع” حسب وصف حرب.   

معرض رشيد كرامي في خطر
شكل “مؤتمر الأبنية المتصدعة” فرصة لدق ناقوس الخطر حول حال وبنية معرض رشيد كرامي الدولي، حيث كشف المهندس خير الدين غلاييني عن أخطار داهمة تتهدّد جميع أقسام معرض رشيد كرامي الدولي بسبب عدم حصول أعمال صيانة دورية. وأبرز غلاييني مجموعة من الصور الملتقطة من الداخل لحال المباني، حيث بدا  تآكل الإسمنت والحديد الصدئ، مطالباً بتحرّك عاجل للحفاظ على واحد من أهم المواقع الهندسية والتحف العمرانية في مدينة طرابلس. 

من جهته، يؤكد المهندس وسيم ناغي لـ “المفكرة” أنّ المعرض هو أحد معالم الحداثة والازدهار والنمو التي شهدها لبنان في خمسينيات القرن الماضي حيث وضع حجر الأساس للمشروع في القسم الثاني منها. وهو علامة فارقة في مسيرة المهندس المعماري البرازيلي العالمي أوسكار نيماير باعتباره أكبر منشأة حداثية في لبنان، وشكّل مرفقًا اقتصاديًا واعدًا جداً، ولكن قبيل الانتهاء من تشييده اندلعت الحرب اللبنانية. 

وبعد أيام من المؤتمر وتحديدًا يوم الأربعاء 25 كانون الثاني 2023، قررت الأونيسكو إدراج المعرض على قائمة التراث العالمي كنتاج معماري له قيمة عالمية من حقبة الحداثة للقرن العشرين. يتحدث ناغي عن الحملة التي تكللت بالنجاح لإدراج المعرض في اللائحة، بعد أن بدأت في 2012 (بعد وفاة نيماير) من خلال الترويج للمعرض باعتباره جزءًا من التراث الحداثي، لدرء الإهمال عنه، لافتاً إلى أنه “أُدرج على لائحة المؤشر الأولي للتراث العالمي للأونيسكو في عام 2018، وصولاً إلى تصنيفه على اللائحة النهائية للمنظمة بفعل تقديم ملف متكامل، ليكون أول معلم تراثي حداثي للقرن العشرين يُصنَف في العالم العربي، والأول بين معالم طرابلس بعد تصنيف 5 مواقع في لبنان هي بعلبك، عنجر، صور، جبيل، ووادي قنوبين”. 

يأمل ناغي أن “يفتح تصنيف المعرض ضمن التراث العالمي الباب أمام دفع الجهات المانحة لترميمه وتدعيمه كونه متهالك، ويتآكل بفعل مرور الزمن حيث وصل إلى مرحلة متقدمة من التدهور الإنشائي والعمراني بعد عقود من التخريب والسرقة خلال الحرب اللبنانية وما بعدها ولغاية اليوم بعد 6 عقود من إنشائه”.  

في الحلول: 
دعوات لإدراج كلّ المدينة على قائمة الأونيسكو
يصف المهندس سركيس خوري، المدير العام للآثار، مدينة طرابلس القديمة بالإرث الحضاري والثروة الوطنية التي يجب الحفاظ عليها. ورداً على اتهام المديرية بـ “منع المواطنين من استثمار عقاراتهم وعرقلة مشاريعهم عند وضع الأبنية على لائحة الجرد مما يؤثر  سلباً على السلامة العامة”، يلفت خوري إلى أنّ “حق الملكية والاستثمار محفوظ للمالك، ولكن لا يمكن التغيير بأيّ شكل من الأشكال في العقار، فعلى سبيل المثال، لا يمكن للمالك هدم العقد الحجري، ولكننا لا نمنعه من إضافة واجهة لاستثماره في وجهة أخرى”. 

يتحدث خوري عن “الحالة الطرابلسية”: “هنا لسنا أمام مبنى أثري واحد، وإنّما أمام مدينة أثرية بأسرها، والتشدّد مردّه أنّ المدينة تستحق الحماية، لأنّها المدينة الأولى في لبنان من الناحية التراثية لتضمّنها أكبر نسيج عمراني قديم”. ويضيف: “تم تجديد وضع طرابلس على لائحة الجرد في 2019، بالإضافة إلى وضعها على اللائحة التمهيدية للأونيسكو التي تخوّلها دخول قائمة التراث العالمي”، موضحاً أنّ “الأبنية المتهالكة تشكل خطراً على وضع المدينة على لائحة التراث العالمي، لأنّه لا بدّ من صيانة المدينة القديمة وإدارتها”، مطالبًا بالشراكة بين المديرية، البلدية، الوزارات، والمواطنين. 

يشير خوري إلى أن المديرية “أجرت في 2017- 2018 جردة للأبنية المتهالكة في طرابلس، وقد طالبت بـ 30 مليون دولار للترميم، وأحيلت إلى مجلس الوزراء، و”للأسف لم يتم إعتماد موازنة للموضوع”. 

يتخوّف خوري من آثار أي حدث طبيعي لأنه سيؤدي إلى خسائر كبرى بسبب “عدم تدعيم المباني، بالإضافة إلى المخالفات ضمن المباني لناحية توسيع المساحات من خلال إزالة القناطر أو حيطان الدعم، وزيادة أحمال على المباني”، مكرراً الحديث عن “أثر كبير لخروج المالكين من تلك المناطق التراثية باتجاه طرابلس الجديدة، والضم والفرز، ومن ثم إهمال أعمال الصيانة والترميم على المباني المؤجرة بعقود قديمة”، مطالباً بوضع تشريعات لمعالجة الإيجارات ومشكلة شيوع الملكية. 

صناديق مانحة وتكرار تجربة ما بعد تفجير مرفأ بيروت 
تتطلع طرابلس لتكرار تجربة ترميم المباني في بيروت عقب تفجير المرفأ عبر تمويل من الجهات المانحة والجمعيات. ويؤكد سركيس خوري على أنّ ترميم مباني بيروت جاء بفعل تبرعات وهبات من منظمات وليس من خلال موازنة الوزارة أو الحكومة اللبنانية، رافضاً الحديث عن مناطق محظيّة على حساب طرابلس. ويلفت إلى أنّ وزارة الثقافة في عهد الوزير غسان سلامة أطلقت مشروع الحفاظ على الإرث الثقافي، وشهدت بعض أحياء المدينة ورشة ترميم، إلّا أنّ مدينة طرابلس مدينة كبيرة وتحتاج الكثير من الاهتمام”، مشيراً إلى أنّ “اعتماد المشاريع في جبيل، البترون، وصور على المبادرات الفردية لإنماء المدن، هو ما أدى إلى دخول جبيل وصور إلى لائحة التراث العالمي، وسبّب نهضة في البترون”. ويضيف خوري: “لا توجد دولة في العالم ترمّم جميع المباني القديمة، ولكننا في لبنان نعمل لحمايتها للحفاظ على النسيج العمراني الإجتماعي وصولاً إلى إقرار خطط التنمية المستدامة”. 

التدعيم كحل المؤقت
في ظل غياب التمويل والخطط المتكاملة، يبقى البحث عن حلول في دائرة الممكن. فيقترح المهندس شوقي فتفت تدعيم المباني الفارغة، وتأمين حماية مؤقتة لها بغية المحافظة عليها إلى حين اعتماد الحلول المستدامة. ويقوم الحل المؤقت على استحداث سقوف حديدية لتخفيف وطأة المناخ والزمن. أما فيما يتعلق بالمباني المسكونة، فيعتقد فتفت أنّ هناك إمكانية لتدعيم مؤقت “غير جمالي” للمحافظة على أرواح السكان، موضحاً أنه يمكن استخدام بعض الأساليب على غرار الجسور الحديدية من الخارج بغض النظر عن الشكل الهندسي المعماري، لأن الأولوية هي لمنع سقوط البناء وحماية الأرواح كخطوة أولى.