الدولرة كخلاصة للأزمة: عفو عام للسلطة

في زحمة الدولرة على كافة المستويات وانزلاق الدولة إليها بشكل مجتزأ عبر رفع الرسوم الجمركية وتعديل سعر الصرف الرسمي ودولار صيرفة ليتوافقوا مع تحرّك دولار السوق صعوداً، يبقى السؤال الأهم هو كيفية حماية الأسر من تداعيات تراجع القدرة الشرائية للرواتب والأجور؛ فهل هذا ممكن؟.
وصول الدولة إلى هذا البُعد من أبعاد الأزمة، يعني أنها تسجِّل على نفسها اعترافاً بكارثية الإجراءات المتَّخذة للمواجهة، وعلى رأسها سياسة دعم السلع عبر تأمين مصرف لبنان الدولارات للاستيراد لتخفيف الطلب من السوق الموازي ومنع ارتفاع سعر صرف الدولار. ومع الوقت، تلاشت دولارات المصرف وذهبت جُلّ السلع المدعومة نحو التهريب والتخزين ورفع أسعارها تماشياً مع سعر الدولار في السوق.
رُفِعَ الدعم تدريجياً وبقيت الأسر بلا حماية وسط رفض الحكومات دعمها مباشرة وترك الأسعار تتحرّك في السوق على أن يضبطها تراجع الطلب مع تراجع القدرة الشرائية للعائلات وتركيز استهلاكها على المواد الأساسية.

الدولرة أمر واقع
تغاضت الحكومات عن حتمية الذهاب نحو الدولرة الشاملة ما لم تنفّذ خطّة واضحة لحماية الأسر، بالتوازي مع إدارة نقدية يتولاّها مصرف لبنان للحفاظ على الليرة وخفض الطلب على الدولار. وبعد أكثر من 3 سنوات على بدء الانهيار، تتبنّى وزارة الاقتصاد تسعير السلع بالدولار كخلاصة للأزمة، بدون تحميل المسؤوليات لأحد، لا على مستوى اتخاذ قرار الدعم والامتناع عن دفع سندات اليوروبوند وما خلّفه ذلك من انسلاخ عن العالم، ولا على مستوى إظهار أين ذهبت دولارات الدعم.
على أن الدولرة لا تعني وقف الأزمة عند هذا المستوى، ولا تعني أيضاً فرض دفع ثمن السلع بورقة الدولار، فهذا ممنوع قانونياً، وإنما المطلوب هو إعلان سعر السلعة بالدولار وتقاضي قيمتها بالليرة. فوزير الاقتصاد أمين سلام علَّلَ بأن هذه العملية "تحافظ على السعر من دون ربطه بارتفاع سعر الصرف مع منع إضافة الهوامش بالليرة". أي أنها عملية تجميل خارجية، لكن يتخلّلها إزالة بعض "الشوائب" التي تزعج التجّار لناحية تبديل الأسعار مع تحرّك الدولار، والقبول بالدولار عملة شبه رسمية في تعاملات التجّار.

خسارة الوقت
رغم ذلك، تأخَّرَ الاعتراف بالدولرة، وتالياً الاعتراف بجذرية الأزمة والحاجة الجدية للحلول. "ولَو تعامَلَ السياسيون مع خيار الدولرة بشكل واضح منذ البداية، لوفّروا الدولارات في مصرف لبنان ووفّروا أكلافاً إضافية على المواطنين الذين دفعوا فارق سعر صرف مرتفع"، وفق ما يقوله الخبير الاقتصادي روي بدارو في حديث لـ"المدن".
والشعبوية هي سبب التأخُّر باتخاذ القرار، بنظر بدارو، "فلا أحد يريد تبنّي فكرة التسعير بالدولار أمام الناس. فيما الدولرة أمر طبيعي في اقتصاد يستورد بالدولار، والتجّار يضعون أسعاراً استباقية أعلى بما بين 5 إلى 10 بالمئة من دولار السوق، وعندما يرتفع الدولار يرفعون أسعارهم، وعندما ينخفض لا يخفّضون الأسعار".

عوائق وتساؤلات
لم يعد الإعلان عن الأسعار بالدولار هو المعضلة الأكبر بعد سنوات من استنزاف كل شيء. فالرواتب والأجور المتآكلة لا فرق لديها في العملة المعلَن عنها بل في تناسُب القدرة الشرائية مع الأسعار المعلنة. فالأسر قد تشهد شبه ثباتٍ في الأسعار حين يُعلَن عنها بالدولار، لكن الدفع بالليرة سيقف أمام هوية سعر الصرف المعتمد، هل هو سعر السوق أم ابداعات أخرى؟.
المستوردون والتجّار لن يقبلوا سعراً أقل من سعر السوق، فهم يشترون دولارهم من السوق وسيصرّفون الليرات المقبوضة من الزبائن، بسعره. وبالتالي، على وزارة الاقتصاد تحديد جدول أسعار نهاية كل يوم. لكن ماذا لو تحرّك سعر الصرف بعد إعلان الجدول؟. فإذا ارتفع السعر، سيعترض التجّار. وهذه جدلية لا يمكن حسمها مع استمرار تقلّب الدولار، بل يمكن تخفيف حدّتها بوجود الرقابة، وهذا أمر غير متوفّر.
السجال الإضافي هو تحديد السعر الفعلي للسلعة. فنحن في اقتصاد حرّ تتحدّد فيه الأسعار وفق قاعدة العرض والطلب. وبذلك لا رادع أمام التجّار يعيق رفع أسعارهم بالدولار. أما إمكانية التلاعب بالفواتير، فمفتوحة دائماً، وليس لدى وزارة الاقتصاد الإمكانيات الكافية لإجراء الرقابة الصحيحة، من أي نوع كانت.
تتناقص الخيارات مع مرور الوقت، ولا آلية لتصحيح الرواتب والأجور، وتحديداً للموظفين والعاملين في القطاع العام وأغلب مؤسسات القطاع الخاص الذين وإن رُفِعَت أجورهم، إلاّ أنها لا تواكب معدّل ارتفاع الأسعار. ومع عدم التصحيح وغياب الرقابة، ستعمّ الفوضى مجدداً، بالدولار هذه المرّة وبلا حماية من التداعيات.

لا حماية إذاً ولا محاسبة، بل عفوٌ عام تحت جناح ضبط التلاعب بالأسعار عن طريق الدولرة. وكأنّ السلطة ليست مسؤولة عن الأزمة، وإنما تدخَّلَت كمصلح اجتماعي لإيجاد حلٍّ لما اقترفه أحدٌ ما، والحل هو تقديم نصيحة بالاعتراف بالدولار كعملة تداول فعلية وبالليرة كأوراق بلا قيمة للمعاملات الرسمية، وعفى الزمن عن المرتكبين، وهذه المرّة بالأمر الواقع لا بالقانون.