"السياح" اللبنانيون... خدمات درجة ثانية!

لم يأت السياح الأجانب والعرب إلى لبنان هذا الصيف، والسبب واضح، عدم الإطمئنان إلى الوضع الأمني في المنطقة بعد الحرب الإيرانية - الإسرائيلية على رغم قصر مدتها، واستمرار القلق من انفلات الوضع بين إسرائيل و"حزب الله"، مع تعثر إيجاد حل لمسأة سلاح الحزب الذي تصر اسرائيل وأميركا على تسليمه للجيش اللبناني ويرفض الحزب حتى الآن التخلي عنه الا بشروط.

 لكن "السياح" اللبنانيين يأتون أفواجاً أفواجاً من كل المغتربات التي هاجروا إليها إما هرباً من الحروب والتوترات المستمرة منذ أكثر من خمسين عاماً، وإما من الفقر وانعدام فرص العمل واستشراء الفوضى والفساد وسيطرة رؤساء الميليشيات والطوائف على كل كل شيء في البلد لهم ولأتباعهم.

يعود المغتربون بكثافة على رغم حال عدم اليقين من انتهاء دوامة العنف العسكري واستمرار الاعمال العدوانية الإسرائيلية على مناطق لبنانية تمتد من الجنوب إلى البقاع وحتى إلى ضاحية بيروت الجنوبية، وربما يكون مغتربو الجنوب هم الأكثر كثافة في العودة بحسب ما تظهره حركة الطيران القادم من بلدان الإغتراب التي يقيمون فيها، ولا سيما منها أميركا وأفريقيا. وتشي حجوزات شركات الطيران باستمرار التدفق طوال أشهر الصيف، كما تشي الحركة داخل البلد بصيف سياحي واعد.

ليس هذا الحضور اللبناني غير عادي، فتاريخياً معروف أن المغتربين اللبنانيين، لا سيما المتأخرين منهم، ما زالوا مرتبطين عائلياً وعاطفياً وحتى مصلحياً بالبلد. وعلى رغم كل عوامل القلق والتوتر فإنهم يغامرون بزيارة بلدهم وقضاء عطلة الصيف فيه. إنه الحنين، وتأكيد التعلق والإنتماء ونوع من التحدي: نحن هنا رغم كل شيء.

لا يعوض حضور المغتربين اللبنانيين غياب السياح الأجانب، ولاسيما منهم العرب الذين يعدون المصدر الأول للإيرادات السياحية نظراً إلى حجم إنفاقهم الكبير قياساً بما ينفقه المغتربون الذين ينزلون عموماً في منازلهم أو منازل أهلهم، لكن حركتهم في البلد تظهر واضحة على الطرق وفي الأسواق وفي المطاعم والحفلات. من الصعب رصد حجم مساهمتهم في الانتعاش الاقتصادي، لكنهم باتوا وحدهم يشكلون ضماناً للبنان من الانهيار الشامل، إذ يقدر بعض المصادر الأموال الواردة من المغتربات بنحو 8 مليارات سنوياً، إما على شكل تحويلات لأهاليهم وإما على شكل استثمارات، خصوصاً في القطاع العقاري. ويمكن القول بكل أريحية أن لبنان يحيا بفضل أموال أبنائه المنتشرين في كل أصقاع الأرض. منهم من أثرى ومنهم من يعيش بأمان وراحة ومنهم من حمل معه فقره وتعاسته إلى حيث هرب.

لا تهتم الدولة اللبنانية بـ"السياح" المحليين، تعاملهم باعتبارهم أبناء البلد، وربما لا يطلبون هم أكثر من ذلك. والحقيقة التي لا بد من قولها أن البلد (الدولة) غير مهيأ لسياحة كثيفة بعد. فإذا كان العائدون اللبنانيون يتكيفون مع التقصير الرسمي والنقص في المستلزمات الضرورية لسياحة منتجة، فإن عودة السياح العرب والأجانب تحتاج، إضافة إلى الأمن والإستقرار، إلى مقومات أخرى على الدولة بوزاراتها وإداراتها وقواها الأمنية تأمينها، ومن دونها لا سياحة ولا من يسوحون.

ليس الأمر معقداً ومستعصياً، يحتاج فقط إلى قرار وكفاءة ونزاهة. ليس مطلوباً من الدولة أن تأخذ مكان القطاع الخاص، فاستثماراته واضحة: مطاعم وفنادق ومنشآت ترفيهية منتشرة في طول البلاد وعرضها، وكلها تعمل رغم الشكاوى من ارتفاع أسعارها في موسم الصيف. 

تتطلب السياحة أولاً النظام. بيئة الفوضى هي العدو الأول للسياحة. وفرض النظام يعني تطبيق القوانين لا أكثر ولا أقل. قانون السير في الطليعة ومعالجة فوضى الازدحام والدراجات النارية التي لا يلتزم سائقوها لا بقانون ولا بأخلاق وكذلك معالجة ظاهرة "التوك توك" الخطيرة والمخالفة لأبسط قواعد الأمان. تحتاج السياحة إلى رجال أمن بسويات جسدية وتدريبية وعلمية وإلى محاسبة على التقصير، بعض المناظر في بيروت والمدن الأخرى لا يسر الناظرين، دراجات نارية مخالفة لأبسط قواعد السير والأخلاق، ازدحامات خانقة داخل المدن وعلى الطرق الدولية لا ترى شرطياً ينظمها أو يقمع المخالفين الذين يسدون المسارب، سيارت محطمة متروكة على جوانب الطرق يأكلها الغبار وتعشش فيها الجرذان وبعضها متروك من سنوات ولا تتدخل الجهات المعنية لمعاقبة أصحابها أو على الأقل إزالتها، نفايات متراكمة تفوح روائحها وينتشر ذبابها في كل مكان، وصناديق كرتون وكراس محطمة أمام الأرصفة يصادر بها أصحاب الدكاكين مواقف السيارات العمومية ويتسلبطون على الناس بذريعة أن "هذا باب رزق".

نماذج بسيطة من مظاهر مضادة للسياحة لا تحتاج إلى أكثر من مسؤول مدرك وصاحب قرار وبضع دوريات من الدرك وعناصر سير مؤهلين. إما الخطة السياحية الشاملة فتحتاج أكثر من ذلك بكثير، على أمل تغيير كل العقلية التي تقود البلد. "السياح" اللبنانيون يستحقون أيضاً خدمات درجة أولى.