الشرع في الكرملين: "داتا" العقل البارد للتمكن وتصفير المشاكل

الدرج الطويل الذي صعده الرئيس السوري أحمد الشرع في الكرملين، والعبارة التي ذكرها أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حملا تذكارات كثيرة. إنها صورته الأولى في العاصمة الروسية. روسيا التي حاولت استهدافه مراراً، وشنّت طائراتها الغارات على إدلب ومناطق سيطرة المعارضة. مع كل خطوة كان الشرع يخطوها هناك، جالت في رأسه فكرة عما مضى وعما يمكن أن يأتي. ربما كان في إمكانه أن يتنفس الصعداء، هو الذي التقى قبل أشهر بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحلّ أمس ضيفاً مكرماً في حضرة "القيصر" الذي حقق هدفاً استراتيجياً روسياً قبل سنوات بالوصول إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط أو المياه الدافئة. لكنه يعلم أن لا مجال لتنفس الصعداء ولا لكسب الراحة، في ظل التحولات الدولية، والصراع المستمر على سوريا، إلى جانب استحقاقات وتحديات كثيرة في الداخل السوري. لذا اختار الإشارة إلى "الرياضة" التي يمارسها كي لا يتعب، وهو في وضع لا يسمح له بالتعب مطلقاً، بل هو كمن يركب دراجة هوائية ولا يستطيع إلا مواصلة الجري. 

 

مصالحة بعد المجازر

تقف سوريا على مفترقات كثيرة، في ظل التحولات الدولية والإقليمية. على الشرع أن يختار مفترقات الطرق التي سيسلكها، وأمامه أيضاً تحديات داخلية كثيرة، على مستويات اقتصادية، اجتماعية وسياسية. لذلك، لا مجال للارتياح ولا البقاء في حقبة زمنية سابقة أو عند مواقف ثابتة. فالمدخل إلى التعامل مع كل هذه التحديات، هو توسيع هامش العلاقات الخارجية، والبحث عن تعزيز المصالح المشتركة سعياً وراء تحسين الظروف الإقتصادية والاجتماعية. في هذا السياق، زيارة روسيا ضرورية نظراً إلى علاقتها التاريخية مع سوريا، وللنفوذ الذي تحتفظ به موسكو، إضافة إلى علاقتها بالمكونات المختلفة ولا سيما الطائفة العلوية في الساحل وجبال العلويين، والذين يبحث الشرع عن مصالحة معهم بعد المجازر التي حصلت في آذار الفائت. 

 

لحظة 2 ديسمبر 2024

وربما أقصى ما يحتاج إليه الشرع في هذه المرحلة، هو مواصلة الصعود على أدراج كثيرة، في سبيل "التمكين والتثبيت". بناء عليه، لا تُعتبر زيارته لروسيا تحولاً على مستوى الاستراتيجي أو نقلاً للوجهة من الغرب إلى الشرق، لكن الخطوة بلا شك استراتيجية وذات أهداف بعيدة المدى. هي تفسّر بوضوح مسار الشرع ومسلكه الساعي إلى تصفير المشاكل، ولا سيما مع الدول الكبرى أو المحيطة بسوريا. هو يريد الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية مع الأميركيين، والأوروبيين ودول الخليج، إضافة إلى بناء علاقة مع روسيا. فالزيارة تأتي تتويجاً لمسار طويل من العلاقات والاتصالات التي سبقتها وأسست لها، منذ لحظة التواصل يوم 2 ديسمبر 2024، وخلال معارك إسقاط نظام بشار الأسد، والتي تبلغ فيها الروس بضمانات من هيئة تحرير الشام بعدم استهداف المصالح الروسية والحفاظ عليها مستقبلاً، وصولاً إلى زيارات روسية متكررة إلى دمشق. 

 

دور لأنقرة في الاتصالات

مرت العلاقة بين الجانبين بتوترات كثيرة، لا سيما بعد مطالبة دمشق لموسكو، في السابق، بتسليم بشار الأسد، فجاءت ردود روسية تطالب باستعادة الديون المتوجبة على سوريا، وبعدها دخلت جهات عديدة عربية ودولية على خط العلاقة. وفي خضم معركة الساحل، سرت معلومات عن دور لروسيا. وقرأ الشرع فيها رسائل كثيرة حول قدرة موسكو على تحريك الوضع وإفلات الساحل من سيطرته. وتجددت الاتصالات التي لعبت فيها أنقرة دوراً أساسياً. وبعدها جرت زيارة روسية لدمشق، أسست لزيارة وفد موسع لاحقاً. 

 

داتا المعلومات لدى ضباط الأسد 

تنظر روسيا إلى سوريا من زاوية استراتيجية لوجودها في الشرق الأوسط وعلى البحر المتوسط، وهي التي لديها طموحات كثيرة في لعب دور أساسي تجارياً، وفي مجالات الطاقة، إضافة إلى الحفاظ على النفوذ في المنطقة. أما الشرع فلديه مصلحة مع روسيا كدولة كبرى، صاحبة مقعد ثابت في مجلس الأمن الدولي، ولديها حق الفيتو، ولها علاقات مع إسرائيل ونفوذ كبير في الساحل السوري. لذا فإن العلاقة معها لا يمكن أن تتوقف عند زمن سابق، أو عند تسليم بشار الأسد. ويعلم الشرع أن الكثير من المسؤولين الأمنيين المحسوبين على بشار الأسد يمتلكون الكثير من المعلومات والداتا المتعلقة بكل عمل الأسد ونظامه، وهذه الداتا تحتوي على كل ما يدين الأسد وكثر من مسؤوليه وضباطه. وهو بالتأكيد يعلم أن هؤلاء الضباط حاولوا التفاوض على ما يملكونه من معطيات سعياً وراء أدوار، كما حاولوا مراراً لعب دور في تحريك الساحل السوري للمطالبة بإقليم منفصل، أو فيدرالية، أو إدارة ذاتية. لذا، إن الأسهل لقطع الطريق على ذلك، وعلى أي محاولة استغلال من جانب إسرائيل، هو زيارة روسيا وتحسين العلاقة معها. 

 

دور روسي في الجنوب السوري

وللمفارقة أيضاً، أنه كلما تعثر مسار التفاهمات التي تسعى إليها الولايات المتحدة الأميركية مع إسرائيل أو مع قسد، يحصل تحرك على خط العلاقة السورية الروسية، لكن ذلك لا يعني البحث عن بديل، بل هو نوع من تنويع العلاقات وتوسيعها. علماً أن روسيا قادرة على لعب دور في الجنوب السوري انطلاقاً من الدور الذي لعبته سابقاً أيام نظام الأسد حيث لها نقاط محددة هناك. 

 

قنوات اتصال مع رموز سابقين في الساحل

إلى جانب العلاقة مع روسيا، والدور الذي يمكن لموسكو أن تلعبه مع تل أبيب، ومع العلويين في الساحل، فإن الشرع يعمل على تنويع خياراته، هو في الأساس كان قد شرع في فتح قنوات تواصل مع شخصيات في الساحل بعضها كان محسوباً على النظام السابق، مع تقديم مساعدات لهؤلاء وتعزيز وضعيتهم لتوسيع شعبيتهم ولإقناع مجموعات من الناس بأن خيارهم وخدماتهم واحتياجاتهم تتوافر من خلال دمشق. وزيارة روسيا يريد لها أن تعطي انطباعاً للعلويين بأن استقباله في الكرملين يقطع الطريق على أي محاولة سيقدم عليها المحسوبون على النظام السابق للقيام بتحركات أمنية أو عسكرية ضد دمشق، ولكي لا يتم التغرير بهم وإيهامهم بأن موسكو تدعم مثل هذه التحركات. 

 

سياسة النفَس الطويل

ما يعتمده الشرع في الساحل وجبال العلويين، هو نفسه ما يعتمده مع قوات سوريا الديمقراطية التي يسعى إلى توسيع هامش التواصل والقنوات مع من يرغبون في الاندماج مع دمشق، لذلك فهو يعتمد استراتيجية النفس الطويل، والاستناد إلى الدعم الأميركي والعربي لإنضاج الظروف الملائمة لإضعاف الجناح الأكثر تطرفاً. وهو ما يعتمده أيضاً في السويداء التي بدأت تشهد صراعات داخلية تأخذ بعداً عسكرياً وأمنياً إلى جانب الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتردية. 

 

أبعاد عسكرية وأمنية واقتصادية

هي صفحة جديدة في مسار العلاقات السورية الروسية ومستقبلها. لكنه مستقبل سيكون مثقلاً بالتاريخ، تاريخ ما كان بين روسيا والمعارضة السورية، وما بين روسيا والأسد ومؤيديه. وإن كان هناك سياق سياسي لتخفيف هذا الثقل التاريخي، إلا أن الارتباط الأوثق يبقى له أبعاد عسكرية وأمنية واقتصادية. فعسكرياً، تريد روسيا تثبيت قاعدتها في حميميم والاحتفاظ بالمطار إضافة إلى نشر قوات لها في مناطق الساحل، لتكون ضمانة للعلويين. وقد أرسلت قبل أيام عدداً من جنودها إلى حميميم لنشرهم هناك بالتفاهم مع دمشق. أما أمنياً، فإن روسيا تطرح التعاون الأمني مع دمشق في مجالات مختلفة بينها دورات التدريب أو عروض بيع الأسلحة. وأما اقتصادياً فلروسيا حضور واتفاقيات طويلة الأمد مع سوريا في ملفات النفط، الغاز، الفوسفات، وغيرها، وهذه الاتفاقيات محكومة بالاستمرار كبديل عن المطالبة الروسية بالديون المتوجبة على سوريا والتي كبّدها إياها نظام الأسد.