المصدر: النهار
الكاتب: جاد فقيه
الجمعة 11 تموز 2025 07:23:58
"لم أكن أتوقع أن أبحث عن منزل خارج أحياء الضاحية، خصوصاً أنني من أوائل العائدين إلى المنطقة بعد الحرب، ولكن لسوء الحظ أخرجت أبي وأمي من المنزل بعد الحرب ثلاث مرات، وبذلك نكون قد عانينا بعد وقف النار أكثر مما قاسينا خلال الحرب، جراء تهديدات إسرائيل المفاجئة لمبان قريبة منا نسبياً، والآن أبحث عن منزل خارج كل الضاحية خوفاً على والديّ لكونهما طاعنين في السن ولا يستطيعان الخروج، وأنا أعمل في شارع الحمرا".
هذا ما قاله الثلاثيني محمد شومان عن سبب سعيه إلى ترك الضاحية الجنوبية لبيروت على الرغم من انتهاء الحرب.
والحقيقة أن الضاحية لم تعد بعين أهلها وسكانها كما كانت. فقبل الاستهدافات الإسرائيلية وتوسع العدوان كان يمكن تعريفها بأنها المساحة الحاضنة لأكثر الهويات الجماعية صلابة في لبنان، أما الآن فأمست منطقة يريد كثيرون "الفرار" منها.
حالة شومان ليست فريدة، مثله كثر قرروا الخروج من الضاحية إما لأسباب خاصة منطقية، وإما لخوف دفين زُرع في أفئدتهم جراء ما رأوه فيها خلال وبعد الحرب. وحديثاً، بات الأهالي أكثر قابلية لفكرة ترك الضاحية، خصوصا أنهم يتلمسون تكرار الإشارات نفسها التي تلت الحرب الأخيرة، كالاستهدافات جنوباً، والتصعيد في خطابات قادة "حزب الله"، والتشدد الأمني في المنطقة، فضلاً عن صوت المسيّرات التي باتت تفارق سماء الضاحية استثنائيا ولساعات معدودة فقط.
إلى كل هذه الأسباب، ثمة جانب نفسي كامن لدى أبناء هذه المنطقة يدفعهم أكثر فأكثر إلى هذا الخيار، فكيف يمكن تفسره؟
المعالجة النفسانية هانيا كنيعو تشرح لـ"النهار" أن "كل شخص يتأثر بطريقة معينة بفعل أي حدث أمني، وفي لبنان غالبا ما تتكرر هذه الأحداث، ما يترك آثاراً نفسية عميقة عند الفرد وصدمات مباشرة ومتكررة".
وتضيف: "أبناء الضاحية يعيشون في بيئة يشعرون بأنها غير آمنة لفترة طويلة. فمثلا، حين يسمعون صوت الـmk يقولون تلقائيا إن هناك ضربة مرتقبة، وهذا بذاته ربط بصدمة سابقة".
وبحسب كنيعو فإن "تعرض الشخص لهذه الصدمات يتسبب بحالة من القلق المزمن ونوبات الهلع واضطرابات في النوم، وعند البعض تكون هذه المشاكل والحالات مضاعفة لكونهم لا يعلمون فعلياً ماذا يحصل من حولهم، وهذا ما قد يؤثر على نموهم".
ولا تنفي كنيعو أن ثمة جانباً سياسياً لعلم النفس، مشيرة إلى أن "في الضاحية مثلا، ثمة من لا يرى خروجه من المنطقة جيداً، ويعتبر أنه في حال حصول ضربة سيكون شهيدا، بناء على خلفيات سياسية وإيديولوجية ودينية تشرّبها. في المقابل، هناك آخرون تتعارض معتقداتهم مع هذه الأفكار ولا يريدون أن يكونوا ضحايا لفكر غيرهم، لذلك يخرجون من الضاحية، وهنا نرى أن الرفض لم يعد يقتصر على عامل الجغرافيا فقط، بل على عامل الهوية السياسية للمنطقة".
وتؤكد أن "محاولة أبناء الضاحية للخروج منها فعل مفهوم في علم النفس، بل متوقع في حالات مماثلة".
يبقى أن إعادة بناء الثقة بين أبناء الضاحية ومنطقتهم قد يحتاج إلى أشهر من السلام وانعدام الاستهدافات والاضطرابات الأمنية، وحتى لو حصل كل ذلك سيبقى الرجوع إلى الضاحية قراراً فردياً ربما لا يجرؤ على اتخاذه كثر ممن غادروها.