المصدر: نداء الوطن
الكاتب: جوزيف حبيب
الاثنين 14 نيسان 2025 07:52:48
عبّدت «محادثات الإحماء» الأميركية - الإيرانية داخل منزل وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي في سلطنة عُمان السبت الفائت، الطريق أمام مسار دبلوماسي، تضغط واشنطن بحشودها العسكرية قرب السواحل الإيرانية كي يكون سريعاً، بالتوازي مع «حملتها التأديبية» العنيفة ضدّ الحوثيين في اليمن، الهادفة إلى بعث رسالة حازمة إلى طهران، التي امتهنت تاريخياً سياسة «حياكة السجّاد» المراوغة والماكرة، بأن الوقت ينفد وبديل الحلّ الدبلوماسي هو الحرب. تلاقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي على مسألة واحدة حتى اللحظة، فكلاهما لا يريدان الحرب، ما شرّع الباب أمام انطلاقة موفقة وإيجابية وبناءة لمحادثات افتتحت بطريقة غير مباشرة واختتمت في «الردهة الرخامية» بلقاء مباشر قصير بين المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، صاحب المهام الصعبة والمتعدّدة، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، «السلاح الدبلوماسي» الأقوى في يد نظام الملالي.
يواجه ترامب تحدّيات دبلوماسية متعدّدة، من مساعيه الحثيثة لوضع حدّ للحربَين في أوكرانيا وغزة، بجهود «العازف المنفرد» ويتكوف أيضاً، إلى «حربه التجارية» المستعرة مع الصين، العدوّ الجيوسياسي الأوّل للولايات المتحدة. يعمل الرئيس الجمهوري على محاور مختلفة من دون تحقيق خرق جدّي على أي جبهة. لذا، يضع ترامب كلّ ثقله لتحقيق نتائج ملموسة مع طهران، حيث يرغب بالوصول إلى اتفاق نووي جديد يمنع إيران من تصنيع سلاح ذريّ، بينما يُريد قادة طهران إنقاذ ما يُمكن إنقاذه بعد عام ونصف العام من الهزائم الاستراتيجية المتتالية التي أضعفت وضعية إيران أمام اللاعبين المنافسين، الإقليميين والدوليين، وعرّتها أمنياً وعسكرياً بشكل خطر أمام إسرائيل، وتالياً إبعاد سيناريو الضربة العسكرية المتوقّع أن تكون بمثابة «القشة التي ستقصم ظهر البعير»، إن دقّت ساعتها.
يجهد نظام الملالي لتصوير تفاوضه مع الأميركي على أنه قرار ذاتي جريء لتخفيف العقوبات التي أنهكت شعبه، مع علمه أن صبر الإيرانيين سبق ونفد والسؤال المطروح هو متى سيتفجّر «الغضب المتراكم» ضدّ حكّام طهران في الشارع؟ صحيح أن الإيرانيين والأميركيين كلّلوا الجولة الأولى، التي استمرّت لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، بنجاح، بيد أن درب الاتفاق ما زال متعرّجاً مع تضارب وجهات النظر والرؤى بين الغريمَين اللدودَين. لا مفرّ من تقديم تنازلات متبادلة، بنسب متفاوتة، إذا ما أرادت واشنطن وطهران التوصّل إلى صفقة نووية ناجعة قد تفضي إلى استثمار أميركي في إيران. لكن يترتب على الفريق الأضعف، وهو الجمهورية الإسلامية في هذه الحالة، دفع كلفة مضاعفة لتحقيق هذه الغاية، تبدأ بالنووي والبرامج الصاروخية الباليستية والطائرات المسيّرة، لتنتهي بالدور الإقليمي المتدهور أصلاً.
يُقدّر الخبراء أن تقبل إيران بتقديم «تنازلات دسمة» في ما يتعلّق ببرنامجها النووي من دون الذهاب إلى حدّ تفكيكه، إذا ما ارتأى الملالي أن مثل هكذا قرار يُطيل عمر نظامهم الخائر، موضحين أن إدارة ترامب منقسمة بين الصقور الذين يُطالبون بتفكيك كامل للبرنامج النووي الإيراني، كمستشار الأمن القومي مايك والتز ووزير الدفاع بيت هيغسيث، وبين البراغماتيين الذين يصبون إلى تجريد إيران من القدرات الكفيلة بصنع سلاح نووي، إلّا أنهم يعتبرون أن التعاطي بواقعية لمعالجة المعضلة ضروري للتوصّل إلى «أرضية مشتركة» تقبل بها طهران لحسم القضية، وعلى رأسهم نائب الرئيس جيه دي فانس وطبعاً صديق ترامب الوفيّ ويتكوف، الذي أمامه فرصة عسيرة سيستكملها السبت المقبل بجولة ثانية من المفاوضات المضنية مع عراقجي.
يرى الخبراء أن إدارة ترامب، على عكس إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، تحرص على تحضير «طبخة نووية» تحجّم الدور الإيراني وترضي حلفاءها في المنطقة، خصوصاً إسرائيل ودول الخليج العربي، الذين وجدوا أنفسهم خارج المعادلة إبّان الاتفاق النووي الذي أبصر النور عام 2015 قبل أن يدفنه ترامب بعد نحو ثلاث سنوات خلال ولايته الأولى. ولفت أنظار الخبراء ما كشفه وزير الطاقة الأميركي كريس رايت في الرياض الأحد، بعد أقلّ من 24 ساعة من «محادثات مسقط»، أن الولايات المتحدة والسعودية ستوقعان اتفاقية مبدئية للتعاون في مجالي الطاقة والتكنولوجيا النووية المدنية، متوقعاً تعاضداً مشتركاً طويل الأمد لتطوير برنامج نووي مدني في المملكة. ويعتبر الخبراء أن توقيع مثل هكذا اتفاق سيكون «خطوة عملاقة» تعزز العلاقة الاستراتيجية بين البلدَين وتمهّد لتوسيع إطار «اتفاقات أبراهام» مستقبلاً وصياغة شرق أوسط جديد، فيما لم يستبعدوا احتمال احتضان دولة خليجية غير السلطنة أو دولة أوروبّية، جولات مقبلة من المحادثات الأميركية - الإيرانية، ولو أن الوسيط العُماني سيحتفظ بدوره «المصلح» التقليدي.
ستفعل طهران كلّ ما في وسعها لتفادي تجرّع «كأس السمّ» الذي شربت منه أذرعها المهشّمة. وباشرت إيران، بضوء أخضر من مرشدها الأعلى، بتسوية «أوضاعها الجيوسياسية» مع واشنطن ريثما تمرّ ولاية ترامب على خير، وربّما تحصل على اتفاق مقبول بالنسبة إليها حتى لما بعد حُكمِ الرئيس الذي أطلق مسيرة هزيمة «إمبراطورية فيلق القدس» حين بادر إلى اغتيال «مهندس» الانفلاش الإيراني الجنرال قاسم سليماني مطلع العام 2020. يأمل الملالي في استيعاب النقمة الأهلية والحؤول دون تحوّلها إلى احتجاجات شعبية، بعد تخفيف أميركا سياسة «الضغوط القصوى» ورفعها تدريجياً العقوبات القاسية عن إيران، حال تحقيق خروقات وازنة على طريق ولادة اتفاق في المدى المنظور، الذي حدّده ترامب بشهرَين، يظنّ الخبراء أنه قابل للتمديد إذا ما دعت طبيعة المفاوضات إلى ذلك، وفق شروط صارمة.
أعطى خامنئي بركته الكاملة لـ «ثعالب» الدبلوماسية الإيرانية لإنقاذ نظامه الثيوقراطي الواهن، واستحال عراقجي ورجاله «حبل نجاة» يُراهن الملالي على أن ينتشلوا الجمهورية الإسلامية من مأزقها السياسي والمعيشي ويبعدوا عنها «نيران» الأصول العسكرية الأميركية المكدّسة في المنطقة، ولو على حساب وكلائها الذين يسحقون بحروب «تقطيع الأذرع» القاتلة. فالبيدق والفيل والحصان... «قطع قربانية» تضحّي بنفسها في محاولة لدرء خطر الـ «كش» عن «الملك» على «رقعة الشطرنج». الدبلوماسية قد تبعد شبح الحرب عن إيران، لكن يبدو أن الأوان قد فات على أذرعها المنكوبة للاتعاظ من حنكة «الآمر الناهي» وحكمته.