العجز السياسي عن "تسعير" الدولار المصرفي وضع المودعين بمواجهة المصارف

أدخل العجز السياسي والاتكالية المعتادة للسلطة بالهروب دوماً إلى الأمام، اللبنانيين عموماً وأصحاب الودائع والمصارف خصوصاً، في مسار من الضياع والارتباك سيؤدي حكماً ما لم يتم تدارك تداعياته بسرعة إلى فوضى في تفسير سعر صرف الدولار المصرفي، وتوتر بين المودعين من جهة والمصارف من جهة أخرى حيث سيكون لكل منهما تفسيره ومستنده القانوني في ظل "تطنيش" الدولة وغيابها عن تحمّل مسؤوليتها تجاه ناسها، والتخلي "المقصود" عن فرض حلول معقولة وممكنة التحقيق لملف الودائع.

تدرك القوى السياسية أن لا مفرّ أمامها من السير بتوحيد سعر الصرف، ليس لضرورات اقتصادية ومحاسبية ونقدية فحسب، بل التزاماً بوعودها تجاه المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمها صندوق النقد، وذلك ليس خنوعاً أو انصياعاً بل حماية لما بقي من سمعة مالية للبنان ولإبعاد شبح التصنيفات السلبية التي تطرق بابه كل ستة أشهر.

لا مفر، برغم ذلك فروا من أمام مسؤوليتهم في تعديل سعر الدولار المصرفي، ووضعوا بذلك المودعين في مواجهة المصارف. فوفق القانون، سقط سعر الصرف الرسمي للدولار على 15 ألف ليرة، بعد تعديله في موازنة 2024 ورفعه الى 89.500 ليرة، وباتت جميع أسعار الصرف موحّدة على السعر الجديد بموجب قانون الموازنة. بيد أن المجلس النيابي تهرّب أو تناسى أو تغافل قصداً غير مبرر، عن تعديل سعر صرف الدولار المصرفي، أو أقله تثبيته مجدداً على 15 ألف ليرة، وبهذا بات يحق للمودع قانوناً بعد نشر الموازنة هذا الأسبوع كما هو متوقع، مطالبة مصرفه بسحب "لولاراته" على 89.500 ليرة، متسلحاً بقانون الموازنة، فيما المصرف سيرفض تنفيذ ذلك مستنداً إلى عدم صدور تعديل رسمي على السعر، أو تعميم جديد ذي صلة من مصرف لبنان.

ارتباك المصارف ليس أفضل حالاً من ارتباك المودعين، فهي بين الرفض والقبول بالتنفيذ على السعر الجديد (89.500) ستضع نفسها في موقع المتهم بمخالفة القانون عند التمنّع، أو في تعثر مالي قد يفتح باب الإفلاس لبعض المؤسسات المصرفية، إذا "مشوا" بالسعر الجديد.

ما مصير "اللولار" إذن؟ وكيف سيتعامل القطاع المصرفي مع المودعين؟ مصادر مصرفية تؤكد "أن سعر الـ15 ألفاً للدولار المصرفي باقٍ، وهو ساري المفعول ليس بقوة القانون أو بتوجيهات المركزي، بل كأمر واقع لا يمكن التهرب منه. فالناس يحتاجون وبعضهم يعتاش من سحوباته الشهرية، والمصارف لا تملك أن تتهرّب من القبول بـ"الأمر الواقع" لأنها تعرف أن البديل هو الفوضى في فروعها، وربما اختلالات أمنية في الشارع.

عندما حاول الحاكم بالإنابة وسيم منصوري إبعاد شبح فوضى التسعير عن القطاع المصرفي، بطرحه دفع 150 دولاراً شهرياً لكل مودع وفق التعميم 151 بعد تعديله، ثم عاد وتريّث عن إصدار التعديل بانتظار استكمال مشاوراته مع المصارف، كان هدفه نابعاً من إحساسه أن "الناس متروكون" لمصيرهم، وأن الفوضى قد تكون على الأبواب بعدما سمع عبر الإعلام الكلام الكثير عن عدم صلاحية المجلس النيابي بتحديد سعر الصرف وخلافه. بعدما دخلنا بفوضى التسعير، ما الحل؟ وكيف سيتم إبعاد شبح التوتر في العلاقة بين المودعين والمصارف؟ الحلول عدة وتبدأ وفق مصادر متابعة بالسير مجدداً باقتراح منصوري تعديل التعميم 151 ودفع 150 دولاراً شهرياً للمودع، فيسقط حكماً عندها سعر الـ15 ألف ليرة، وإقرار "كابيتال كونترول" بالسرعة القصوى، وإيلاء مسؤولية تطبيقه لمصرف لبنان، الذي يمكنه أن يتحمل مسؤولية ذلك، لكن شريطة أن يتم ذلك بقانون. ومن الحلول أيضاً تأجيل نشر الموازنة لأسبوع وعدم وضعها قيد العمل، ليتم خلاله تعديل ما هو مطلوب قانوناً وتشريعياً.

ما يحصل اليوم على الساحة النقدية خطير، برأي المصادر عينها و"يهدد بإطاحة الاستقرار المكتسب منذ بضعة أشهر، وخصوصاً أن الواقع السياسي والشغور على أنواعه، والتوقعات العسكرية والأمنية على الحدود الجنوبية لا تبشّر كثيراً بالاطمئنان، ولا تمنح المسؤولين أي ترف للتلكؤ أو التغافل عن ابتداع أي حل وبسرعة تسبق الفوضى المحتملة التي قد يكون أداؤهم تسبّب بها".

أما وقد أصبح سعر الصرف موحداً لدى مصرف لبنان على سعر 89 ألفاً و500 ليرة منذ آب الماضي وتم اعتماده مع الوزارات والإدارات العامة، وفيما كان "المركزي" ينتظر تعديل سعر الدولار المصرفي من خلال موازنة 2024 ليعدل بموجبه التعميم 151 الذي سيخوّل للمودع 150 دولاراً شهرياً، مع خيار سحب مبلغ أكبر على السعر الجديد، لم يتمكن النواب في الجلسة التشريعية التي أقرت موازنة 2024 من الاتفاق على رفع سعر الدولار المصرفي وتركوا المودع والمصارف في مواجهة بعضهم بعضاً، إذ إن المودع سيعتبر أن من حقه سحب وديعته على سعر الصرف الذي حدّده "المركزي" أي 89 ألفاً و500 ليرة، وهذا يعني من وجهة نظر المصارف وضعها في خانة الإفلاس حتماً وحينها ستضيع ودائع اللبنانيين. من هنا أصبح المودع أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بسحب وديعته على سعر 15 ألف ليرة الذي أصبح مفروضاً بحكم الأمر الواقع، أو الطلب من المصرف سحب وديعته على السعر الرسمي (89 ألفاً و500 ليرة) وهو أمر سيرفضه المصرف على اعتبار أنه ليس لديه أي سند قانوني أو تعليمات جديدة من المركزي بأن يسدّد للمودع وديعته على سعر مغاير لـ15 ألف ليرة، بما سيؤدي الى الدخول في نزاع بين المودع والمصرف المعني. يأتي هذا التخبط بعدما عجزت القوى السياسية عن أن تأخذ على عاتقها الحد الأدنى من مسؤولياتها وتركت المودع الذي هو الحلقة الأضعف في وجه المصرف الذي هو من دون شك أقوى من المودع، إذ ساد اقتناع لدى النواب بأن الموازنة غير معنية بتحديد سعر الصرف وآثروا ترك تحديده للسلطة التنفيذية، بالتوافق مع مصرف لبنان، حتى إن بعض النواب ذهبوا أبعد من ذلك، واعتبروا أن تحديد سعر الدولار المصرفي هو من مهام مصرف لبنان الذي أكدت مصادره أن أي تحديد لسعر دولار مصرفي مغاير للسعر الذي حدده (89 ألفاً و500 ليرة)، سيُعتبر بمثابة "هيركات" خصوصاً أن قانون النقد والتسليف لا يعطيه حق تحديد أسعار متعددة، وسيكون عرضة للطعن أمام مجلس شورى الدولة.

لا يمانع مصرف لبنان تحميله مسؤولية تحديد سعر الصرف وتوحيده وهو التزم بتحديده على سعر 89 ألفاً و500 ليرة، ولكن من المؤكد أن المصارف لن تلتزم بسعر للدولار المصرفي مغاير لسعر الـ15 ألف ليرة، في غياب "كابيتال كونترول" يضبط السحوبات، فيما نصحت مصادر مصرفية الحاكم بالإنابة عدم الدخول في هذه "المعمعة" وإبقاء الوضع على حاله في انتظار إقرار "الكابيتال كونترول"، علماً بأن مصرف لبنان كان على وشك إصدار تعميم يخوّل المودع سحب 150 دولاراً من وديعته، ولكن عدم تحديد سعر الدولار المصرفي في الموازنة، جعل منصوري يتريّث حتى لا يُحسب عليه أنه أجرى "كابيتال كونترول" وأراح المسؤولين، فيما التوجّه أن يعقد منصوري مؤتمراً صحافياً آخر الأسبوع بعد لقاء مرتقب له مع رئيس الحكومة خلال اليومين المقبلين، حيث سيضع منصوري ضمن الشفافية التي وعد بها الرأي العام أمام حقيقة ما جرى ويضع كل القوى السياسية أمام مسؤولياتها. علماً بأنه لو اتخذ القرار بتحديد سعر مصرفي (قريب من سعر 15 ألف ليرة الذي تم تحديده في موازنة 2022)، كان منصوري سيصدر التعميم الأربعاء خصوصاً أنه كان قد أعد التعديل للتعميم 151 في انتظار تحديد سعر الدولار المصرفي فقط.

وعلى الرغم من أن مصرف لبنان يجزم بأن الحل في هذا الموضوع ليس من مهامه، وهو لن يتدخل، ثمة من يجزم بأنه لن يبقى مكتوف الايدي وسيخرج من جعبته حلاً يمسك فيه العصا من وسطها، إذ لا خيار أمامه إلا تلقف كرة النار التي رماها عليه المسؤولون.

وفي السياق، أبدت مصادر مصرفية انزعاجها مما آلت إليه الأمور في مجلس النواب، داعية منصوري الى عدم اتخاذ أي قرار في هذا الشأن وتحميل المسؤولية للقوى السياسية التي عجزت حتى الآن عن البت بقانون "الكابيتال كونترول" وإعادة هيكلة المصارف وغيرها من القوانين الإصلاحية التي تضع الأمور على سكّة الحل والمعالجة.

وعلمت "النهار" أن منصوري كان قد اجتمع مع الكتل النيابية كافة إبان التحضير لإعداد موازنة 2024 وأبدت استعدادها لتحديد سعر للدولار المصرفي قريب من الـ15 ألف ليرة، ولكنه صُدم من نتيجة المناقشات في مجلس النواب التي لم تصل الى أي حل أو قرار يريح المودعين ويحافظ على سلامة القطاع المصرفي واستقراره، علماً بأن أحد النواب اقترح أن يصار الى تحديد سعر الدولار المصرفي على سعر 25 ألف ليرة، ولكنه جوبه برفض من بقية النواب، علماً أن هذا السعر كان يمكن أن تسير به المصارف وينصف بعض الشيء المودعين وإن كان لا يزال يشكل "هيركات" لودائعهم، ولكنه أفضل حتماً من سعر الـ15 ألف ليرة الذي كان يقتطع ما نسبته 83% من قيمة الوديعة.