العلاقة السورية–اللبنانية: من زمن الهيمنة إلى زمن التفاوض

لطالما تأرجح موقع لبنان في الحسابات السورية بين "الغلطة التاريخية" وبين "الخاصرة الرخوة"، فالسياسة الرسمية السورية، وعلى امتداد عقود رسَّخت هذه المعادلة التي تحكمت بالمنطق الاستراتيجي في قراءة للعلاقة بين البلدين الجارين. ومنذ أن صار موقف دمشق نتاجًا لانقلابات عسكرية، نبذت دوائر صنع القرار السورية أي ندية في التعامل مع لبنان، وكأنه كيان لا سيادة له، يجب ضبطه أو استثماره أمنياً وسياسياً. ومع وصول الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد تشكل معيار عملي: الرئيس اللبناني الجيد في نظر دمشق هو من يلبي أجندتها ويتيح لها امتلاك أوراقٍ إقليمية، فلسطينية، لبنانية، أو حتى نفوذ على حساب ملف عراقي أو إقليمي أوسع. هذا المعيار هو مفتاح لفهم تعاطي الأسد الأب ثم الابن مع أمين الجميّل، إلياس الهراوي، إميل لحود، ميشال سليمان، ميشال عون، ووصولًا إلى مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، حيث يبرز اسم أحمد الشرع في دمشق وجوزاف عون في بيروت.

منطق حافظ الأسد: تحويل لبنان إلى ورقة إقليمية

مع حافظ الأسد تغيّرت الفلسفة: لم تعد دمشق تكتفي بصدّ أو ملاحقة معارضين جاؤوا إلى لبنان، بل عملت على بناء علاقات مع رؤساء لبنانيين يسمحون لها بأن تستخدم بيروت كمنصة إجراء لمصالح إقليمية. هذا المعيار يفسر بشدة الضغوط والسلوك الحازم الذي قوبل به رؤساء لم يلبّوا توقعات دمشق، وفي المقابل يفسّر الدعم الواسع لرؤساء تعاونوا معها.

محطات رئاسية

تاريخياً، كانت تجربة أمين الجميّل مثالاً على هذا التباعد: حاول الجميّل السير في دروب استقلالية سياسية ظاهرة، لكن النظام الأسدي استخدم سياسة الضغط وإثارة الخلافات وافتعال التوترات الأمنية، فلم يُمنح ما يطمح إليه من "أوراق" استراتيجية، وبقيت العلاقة متوترة. على النقيض، وبعد اتفاق الطائف بدا إلياس الهراوي أكثر قدرة على تفهم قواعد اللعبة السورية فأسهم ذلك في نوع من التوافق المؤسسي الذي سمح لدمشق بضمان مصالحها عبر آليات رسمية، لكن من دون توفير أي وسيلة لاختلاق الأزمات بين ما كان يُعرف بالترويكا (أي رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب) ومن ثم التوسط لحلها، وبالطبع  وصل التدخل في الشؤون اللبنانية مستوى لا يمكن تصوره، وعلى كل الأصعدة وفي كل المرافق الإدارية، بحيث بات التوظيف في الإدارات الرسمية يمر عبر "البوريفاج" أو "عنجر" مقر المسؤول السوري المولج بالملف اللبناني.

 وصول إميل لحود مثّل ذروة ذلك النمط: تحالفٌ وثيق، دعم في شؤون الجيش والأمن، وتقدير سوري لأي تحرُّك يهدد لحود بوصفه تهديدًا لمصالح دمشق نفسها. ومن أخطر محطات تلك الحقبة كانت مسألة تمديد ولاية لحود عام 2004 التي أثارت احتجاجاً محلياً ودولياً وأظهرت مدى قدرة النفوذ السوري على التأثير في القرار اللبناني، في هذا السياق وحسب ما تسرب من لقاء الحريري الأخير مع بشار الأسد، وورد في كتابي فاروق الشرع وباسم السبع، أن الأسد قال له: بانك تعمل ضدي بخيار التمديد وليس ضد لحود. وهدده بأن يحرق بيروت ووسطها على رأسه. 

التحول في نمط العلاقة لم يقتصر على هؤلاء فقط؛ فقد شهدت تجربة ميشال سليمان محاولة للانتقال من منطق النفوذ غير الرسمي إلى قنوات دبلوماسية مؤسسية واضحة. زيارة سليمان إلى دمشق عام 2008 ونتائجها التي أفضت إلى تطبيع التمثيل الدبلوماسي وفتح سفارات بين البلدين مثّلت خطوة عملية لتحويل الإطار من تعاملات سرّية إلى تبادل رسمي وتقني، وهي تجربة أعادت جزءًا من الاستقرار المؤسسي إلى العلاقة بعد سنوات من الاحتقان. تلك الخطوة لم تُطهّر الذاكرة أو تزيل الشكوك، لكنها وضعت مجدداً آليات تفاوضية يمكن الاستفادة منها لاحقًا.

أما ميشال عون فقد تحوّل من خصم لسوريا إلى حليف وفي؛ اعتمد قاعدة "تحالف الأقليات" وعمل على تقارب سياسي مع دمشق في فترات محددة، متجاوزًا في أماكن عدة المطالب الرمزية لدى مناصريه (قضية الأسرى وذاكرة 13 تشرين).

في هذا السياق، هناك روايات وشهادات، بينها ما ورد في مذكرات وكتابات شخصيات لبنانية وسورية، تؤكد أن دمشق استعملت على الدوام فكرة "الخاصرة الرخوة" لتبرير سياساتها، وفي المقابل عملت على تجميع أوراق إقليمية عبر بيروت. قصة زيارات لحود وما جرى من تعديلات نصية على مصطلحات العلاقة الثنائية (لبنان خاصرة رخوة لسوريا والثانية أنها مصدر تهديدات لها) تُروى كدليل على أن دمشق كانت تدير العلاقة بذكاء سياسيي: لا يكفي التعاون الظاهري، بل يجب أن تكون الريادة السورية في القرار اللبناني واضحة بما يكفل مصالحها. هذه الوقائع التاريخية تفسّر الخشية اليوم من أي عودة لما قبل 2005.

هذه المحطات تُظهر أن دمشق لم تتعامل مع لبنان فقط كجوار، بل كأداة توازن ونفوذ إقليمي. من يعطيها ما تريد يُعامل كرئيس "مفيد"، ومن يمتنع يُقابل بصيغة ضغط سياسية أو دبلوماسية، وصولا إلى الاغتيال ربما..

ما بعد سقوط نظام الأسد

سقوط حكم الأسد وظهور قيادة انتقالية في دمشق شكّل منعطفًا صارمًا في المسار الإقليمي: تفكك منظومة مركزية أدّى إلى إعادة ترتيب التحالفات، ودفع دولاً إقليمية، وعلى رأسها السعودية، للمبادرة إلى التهدئة وإعادة تنظيم شبكة العلاقات في المشرق كحالة استقرار إقليمية. في هذا الإطار ظهرت محاولات سورية لبنانية لوضع قواعد تعاونية تقنية: ترسيم الحدود، ضبط المعابر، معالجة ملفات النازحين وملفات التوقيف والمفقودين.

ضمن هذا السياق يحاول رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون، أن يقدم أدوات تفاوض تقنية جديدة: قيادة تمنح بيروت قدرة عملية على إدارة الملفات الشائكة بين البلدين في ظل التغير الإقليمي الحاصل في الشرق، ومن الجهة السورية، يبرز أحمد الشرع كرمز للقيادة الجديدة التي تبدو أكثر ميلاً إلى الحلول الإدارية والبراغماتية من منطق السيطرة الشاملة؛ هذا الاختلاف في طبيعة القيادات يفسّر لماذا تبدو قنوات التنسيق هذه المرة أسهل تقنياً من العقلية السابقة، لكن ذلك لا يلغي عمق الجروح التاريخية ولا يضمن استحالة محاولات إعادة إنتاج نفوذ من نوعٍ ما، إذا ما أخذنا في الحسبان أن هناك من يروِّج لنظرية لا يزال يعتبر لبنان محافظة من المحافظات السورية، واستقلاله بموجب سايكس بيكو غلطة تاريخية.

التسوية الإقليمية لعبت دورًا حاسماً: السعودية ودول خليجية أخرى أخذت على عاتقها مهمة الوساطة وضمان إطار تفاوضي بين دمشق وبيروت. الاجتماع الذي عقد في جدة تحت رعاية سعودية أنتج اتفاقات أولية لترسيم الحدود وضبط المعابر، ووضع آليات تقنية للتعاون الدفاعي والأمني بين البلدين. 

وتولي الوزير طارق متري ملف حل الأزمات بين سوريا ولبنان يبشر بالتوصل إلى حلول عقلانية وعادلة تساهم بتخفيف التشنج بين البلدين، إن لم يتم التوصل إلى إزالته نهائياً وإرساء علاقات ندية.

التاريخ يعلّم أن دمشق تعاملت دائماً مع لبنان كمساحة نفوذ أصيلة؛ والترجمان لهذه العقلية هو معيار "من يساعد سوريا؟" الذي حكم مواقف عديدة عبر العقود. لكن انهيار منظومة الحكم السابقة في سوريا وفَّر فرصة لإعادة ضبط العلاقة بطريقة مؤسسية وتقنية. نجاح هذه المرحلة يتوقف على ثلاثة عناصر مترابطة:

مأسسة التفاوض: تحويل القضايا من مفاوضات شخصية إلى لجان فنية وقانونية واضحة (ترسيم حدود، ملفات سجناء/نازحين، اتفاقات اقتصادية).

ضمان إقليمي متوازن: استعمال الضمان الخليجي (السعودي خصوصًا) ليس كبديل لسيادة الدولة، بل كقناة حماية توفّر ظروف تفاوضية عادلة. 

حفظ الذاكرة والعدالة: أي تسوية يجب أن تعالج ملفات الماضي (اختفاءات، اغتيالات، ملفات أمنية) بشكل شفاف لتجنّب تراكمات تُفرّخ توترات مستقبلية.