الفراغ الرئاسي يغيّب الاحتفال بالاستقلال... الغائب

جاء في الراي الكويتية: .. لا رئيس جديداً للجمهورية في لبنان قبل حلول الـ 2023. هذه الخلاصة التي تزداد حضوراً مع الجلسات المتوالية للبرلمان (6 جلسات) المحكوم بتوازنٍ سلبي بين الموالاة والمعارضة، صارت أشد رسوخاً مع تمادي الصراع داخل الموالاة حول المرشّح الأوفر حظاً لها، واستمرار التشتت بين أطراف المعارضة العاجزة عن فرض إيقاعها في ملاقاة أي تسوية محتملة على اسم الرئيس العتيد ومواصفاته.

ولم يبلغ التحرك الخارجي، الذي تشكل فرنسا رأس حربته، في اتجاه بلورة مبادرات قادرة على كسر المأزق اللبناني، مستويات متقدمة رغم الاهتمام الذي يوليه الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يحرص على تشاور دائم مع المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، والذي ذكرت التقارير الصحافية (النهار) عن عزمه مناقشة «الشغور الرئاسي» في لبنان خلال مباحثاته مع نظيره الأميركي جو بايدن.
وبات شبه محسوم تالياً أنه في ظل المأزق الداخلي في لبنان واقتصار الحركة الخارجية في اتجاهه على المنحى الاستطلاعي، ستمرّ أعياد رأس السنة على لبنان من دون رئيس للجمهورية أسوة بما يشهده اليوم مع عيد الاستقلال الـ79، الذي تحتجب الاحتفالات به، ما دامت سارية القصر الجمهوري المسكون بالفراغ بلا عَلَم.

ويَندر أن يحتفي وطنٌ باستقلاليْن كما هي حال لبنان الذي يحتفل بالاستقلال الأول (عام 1943) عن الانتداب الفرنسي، وبالاستقلال الثاني (عام 2005) بعد خروج الجيش السوري.

لكن المأساة أن الاستقلاليْن اندثرا، الأول بسبب حرب 1975 ولاحقاً الوجود السوري والاحتلال الإسرائيلي، والثاني بسبب النفوذ المتعاظم لـ«حزب الله» وتَراجُع حضور المعارضة التي نشأتْ إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه من تدهور العلاقات الداخلية بين القوى السياسية وانحسارٍ تدريجي لدور قوى «14 مارس» التي كانت رفعت شعارات «حرية، سيادة، استقلال» خلال ما عُرف بـ «ثورة الأرز» التي أعقبت زلزال 14 فبراير 2005 (اغتيال الحريري).

ومن استقلال 1943 إلى التظاهرات الاستقلالية في 2005 مازال تمثال الشهداء في وسط بيروت شاهداً على كل ما رافق لبنان من تحديات منذ الحرب العالمية الأولى وإعدام مجموعة من اللبنانيين شنْقاً على أيدي جمال باشا عقاباً لمطالبتهم باستقلال بلادهم.

فهو وحده الباقي في قلب العاصمة من دون عيد هذه السنة، إذ يغيب الاحتفال بالاستقلال مرة جديدة، فلا عرض عسكرياً يقام في المناسبة، ولا رئيس جمهورية يتوسط المنصة ومن أمامه تمر قطع الجيش ووحداته، بعدما انتهى عهد الرئيس ميشال عون من دون انتخاب خَلَف له. وأضيف هذه السنة غياب رئيسٍ للحكومة أصيل، في ظل حكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي.

وحده الرئيس البرلمان نبيه بري كان يمكن أن يتفرّد بجلوسه على «عرش» الاستقلال ومنصته، وهو الذي رافق الاحتفالات منذ عام 1992 من دون غيره، فتبدّل معه رؤساء حكومات ورؤساء جمهورية، وبقي يحتفل بالاستقلال في بلادٍ لم تَعِشْ الاستقلالَ الفعلي إلا في رحاب سنوات قليلة أعقبت خروج الانتداب الفرنسي من لبنان، وسبقت الحرب الأهلية ووجود منظمة التحرير الفلسطينية والتدخل السوري المديد، ولم يَعرف لاحقاً من العيد إلا العطلة الرسمية وسِباق الاستقلال والأغنيات الوطنية.

فذكرى الاستقلال عيدٌ رسمي بطبيعة الحال، ولطالما انطبع بأناشيد حماسية وأغنيات وطنية تملأ أثير محطات الإذاعة والتلفزيون ويصدح بها صوتُ فيروز الذي التصق بالاستقلال (صودف عيد ميلادها في اليوم عينه) ولعلّ أشهرها «معافى يا عسكر لبنان» التي تحولت على مر الأعوام عنواناً للعيد، أو أغنيات تتردّد عالياً بصوت الراحلة صباح في استعراض الجيش وأكثرها حضوراً «تسلم يا عسكر لبنان».

وفي العادة ترتفع لوحاتٌ إعلانية للجيش في المناسبة مع شعاراتٍ تستعيد مجد لبنان وعسكره، وتنتشر الأعلام اللبنانية على الطرق وفوق المراكز العسكرية بكثافة.

وفي الذكرى 79 للاستقلال الآتي من دون عيد وبلا طقوسٍ احتفالية، يحلو للبعض الحديث عن مفارقة وحيدة «ارتاح» معها اللبنانيون من عجقةِ التدريبات العسكرية التي كانت تتم في وسط بيروت وتقطع الطرق لإجراء العرض العسكري فيقبعون في سياراتهم لساعات طويلة.

لكن في المعنى العميق لاحتجاب الاحتفالية أن لبنان لا يعيش استقلاله الحقيقي هو الذي مازال من دون كتاب للتاريخ، بعدما فشلت الطوائف وقواها السياسية في التوحد حول كتاب واحد ومقاربات لأحداث واحدة. فما كاد اللبنانيون يخرجون من الحرب والانقسامات ويستعيدوا الاحتفال المركزي باستقلالهم وبشهدائهم حتى اختلفوا مجدداً على وجهات النظر الكثيرة التي رافقتْهم خلال حربٍ بدأت عام 1975 وانتهت في 1990، وما عادوا يعرفون كيف يوثّقون ذاكرتهم للأجيال الجديدة التي شهدت غرق الجيل الذي تَقاتَلَ في الحرب في دوامة أخرى من الانقسامات ومن ثم الصراعات التي انفجرت على مصرعيها في 2005 وما شهدتْه من اغتيالات سياسية.

مع كل فراغٍ رئاسي حلّ على لبنان، أي أربع مرات، كان يغيب الاحتفال بعيد الاستقلال. وقد تكون الفترة الأطول هي التي سبقتْ انتخاب عون رئيساً للجمهورية حين غابت الاحتفالات لسنتين قبل أن تعود عام 2016.

ومن مفارقات عهد عون أنه للمرة الأولى يشهد لبنان عرضيْن للاستقلال عام 2019. فبعدما اندلعت احتجاجات 17 أكتوبر 2019، حرص المتظاهرون على تنظيم عرْض مدني للاستقلال، في موازاة العرض العسكري الرمزي الذي أقامه الجيش في حضور عون والرئيس نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال حينها سعد الحريري.

في ذاك العام أعطى المُنْتَفِضون بُعداً شعبياً غير مسبوق للاستعراض الذي ضم كل فئات اللبنانيين ووظائفهم ونقاباتهم من أطباء وممرضات ومهندسين وطلبة وأساتذة وعمال وموظفين شكلوا نموذجاً مصغراً عن المتظاهرين وعن اللبنانيين الذين يحتفلون بالاستقلال.

وهو كان علامة فارقة في مسار التظاهرات الشعبية التي عبّرت للمرة الأولى منذ 2005 بهذا الزخم عن تطلعات اللبنانيين، وأحيتْ بعضاً من ذاكرتهم وفرحهم الطفولي باستعراض عيد الاستقلال أو مشاهدته عبر الشاشة الصغيرة.

لكن ثوار 17 أكتوبر خَرَجوا من الساحات، ولم يَخرج لبنان من نفقٍ هو الأخطر منذ استقلاله الذي لم يبْقَ منه هذه السنة إلا أكاليل من الزهر توضع على أضرحة رجالاته، بعدما فرّغه الشغورُ الرئاسي والمطاحنات السياسية من معانيه الحقيقية، وبعدما وضعت الأزماتُ المتشابكةُ الوطنَ الصغير أمام «خطر الزوال» وتركتْ شعبَه لـ «تنهشه» واحدةٌ من أسوأ 3 أزمات مالية عرفها العالم منذ 1850.

ومن هنا لم يكن مُفاجئاً أن يحوّل اللبنانيون يومَ الاستقلال احتفالاً بفيروز على مواقع التواصل الاجتماعي ودعاءً لها ولصوتها الذي سبق عمره الاستقلال (أطفأت شمعتها الـ 87) وصار وطناً رسمته «حكاية بالعز مضواية» وناجتْه «ليش هالقد بحبك. يا غاية الغاية. بحبك يا عينيي. لأنك غنية. تلجك المحبة وشمسك الحرية»