القلم أقوى…

في زمنٍ جديد، يُفترض أن تكون للكلمة قوتها، وللرأي الحرّ مكانته، وفي وقتٍ نحن بأمسّ الحاجة فيه إلى من يكتب بصدق ويعبّر بحرية، نجد أنفسنا – ويا للأسف – أمام حلقة جديدة من الاستهداف الممنهج للفكر الحرّ.

نحن الذين نحلم منذ عقود بوطنٍ جديد. وطن نقي من رواسب الوصايات والاحتلالات والقمع، وطن يقوم على الحرية والكرامة وحقّ التعبير، نُفاجَأ اليوم بأن خيرة صحافيينا ومفكرينا وكتّابنا يُستدعون إلى القضاء لا لأنهم خالفوا القانون، بل لأنهم قالوا الحقيقة.

إنها ليست مجرّد قضية فردية، بل مشهد يعكس حجم الخطر الذي يتهدّد حرية الكلمة في لبنان. فبدل أن يكون القلم حليف الدولة في بنائها، يتحوّل إلى متّهم أمام مؤسسات يُفترض أن تحميه لا أن تلاحقه.

وفي الوقت الذي يبحث فيه اللبنانيون، ومعهم المجتمع الدولي، سُبل وضع حدٍّ للسلاح غير الشرعي، وفي اللحظة التي يتلكأ فيها البعض ويهرب من مواجهة هذا الاستحقاق المصيري، نجد أنفسنا أمام مشهد مريب ومهين: استدعاء رئيس ومديرة تحرير جريدة “الحرة” الإلكترونية إلى التحقيق.

فبدل أن يكون الهمّ الأوحد هو بناء الدولة ولمّ السلاح، هناك من يبدو أن همّه لجم الكلمة ولمّ الأقلام. فلماذا يرعبهم القلم أكثر من السلاح؟ ولماذا في لبنان، وحدهم المفكرون والمثقفون والصحافيون، محكومون بالاضطهاد والتخوين والترهيب؟ ألهذه الدرجة تُقلقهم الحقيقة؟ وهل أصبحت حرية التعبير في لبنان جريمة يُعاقب عليها القانون بدل أن يحترمها؟

لطالما اعتُبر لبنان، عبر تاريخه، منبرًا لحرية التعبير في العالم العربي. لكن هذه الحرية، وإن كانت من أبرز ميزات الحياة السياسية والثقافية فيه، لم تَخلُ يومًا من التحديات، بل كثيرًا ما كانت الصحافة فيه عرضةً للسقوط تحت الضغوط، والرقابة، والاغتيال.

لقد مرّ لبنان عبر تاريخه بمراحل عديدة حاولوا فيها إسكات القلم الحر والصحافة الحرّة…

منذ 6 أيار 1916، التاريخ الذي علّق فيه جمال باشا السفّاح مشانق الكلمة الحرة في ساحة البرج، بدأت معه ملحمة طويلة من القمع والبطولة. ففي ذلك اليوم، أُعدم خيرة مفكّري لبنان، من بينهم عبد الغني العريسي، وسعيد عقل (الصحافي، لا الشاعر)، وغيرهم من رواد الفكر الحر، لأنهم حملوا القلم بدل البندقية، والحقيقة بدل الخنوع.

مرّت الأعوام، وتبدّلت الوجوه والأنظمة، لكن الاستهداف لم يتوقف. في عام 1980، دفع الصحافي سليم اللوزي حياته ثمنًا لمقالاته ضد القمع والاحتلال، بعدما عُذّب وقُتل بطريقة وحشية، أُحرقت فيها أصابعه، في رسالة واضحة ضد حرية القلم.

ثم جاءت مرحلة الاحتلال السوري للبنان، التي شهدت تصعيدًا نوعيًا في استهداف الكلمة الحرّة، فاغتيل سمير قصير في 2005، الصحافي الذي تجرّأ على نقد منظومة القمع السياسي والأمني. وبعده بأشهر، كان الدور على جبران تويني، صاحب القَسم الشهير، الذي فجّرته سيارة مفخخة لأنه كتب ما لا يُراد له أن يُكتب.

وفي السنوات الأخيرة، اغتيل لقمان سليم، الكاتب والناشط، برصاص الصمت والتخوين…

ولا ننسى العشرات من الصحافيين والكتّاب الذين قُتلوا، اختفوا، قُمِعوا أو هُدِّدوا، لأنهم تجرّأوا على قول ما يجب أن يُقال.

واليوم، لقد تم استدعاء صحافيي جريدتنا إلى التحقيق.

نعم، لا أحد فوق القانون، حتى الصحافيين أنفسهم.

لكن السؤال الذي يُطرح بإلحاح: هل تُطبَّق العدالة على الجميع؟

أين هي القضايا المرفوعة ضد من يحرّض طائفيًا، أو من ينهب المال العام، أو من يهدد الناس كل يوم عبر الإعلام والمنصات؟

لماذا يُستدعى من يكتب، ويُحصَّن من يسرق أو يحرّض؟

من يقف وراء هذه الاستدعاءات؟ وهل قضاؤنا قضاء مستقل، أم لا زال ذراعًا في يد بعض السياسيين؟

جوابي، بثقة ووضوح: في عهد الوزير عادل نصار، لا. لا، وألف لا.

فهو رجل مواقف، لن يقبل أن تتحوّل الصحافة إلى مكسر عصا، ولن يسمح بأن يُستباح حق التعبير تحت عناوين واهية.

هذه الاستدعاءات، إن كانت تحمل نية إسكات الكلمة، فلن تصل إلى أي مكان سوى إلى ردّ كرامة الصحافيين اللبنانيين، وإعادة التأكيد على أن الكلمة لا تُحاسَب، بل تُناقَش.

نأمل أن تتوقف هذه الارتكابات، وأن نخرج من هذه المرحلة بلبنان جديد، تُصان فيه الحريات، ويُحاكم فيه المجرم لا الكاتب، والسارق لا المفكّر.

فلنتذكّر دائمًا: لا وطن من دون حرية، ولا عدالة من دون رأي حر، ولا نهضة من دون أقلام تكتب بضمير. وإن كان الهدف إسكات الحقيقة،  في وطنٍ صار فيه القلم جريمة، سيبقى سلاحنا القلم… لأنّه ببساطة: القلم أقوى.