المالكون للمستأجرين: هاتوا الاف الدولارات أو اخلوا الشقق!

في أحد أحياء الأشرفية، سيدة مهمومة أمام ورقة إنذار وصلها قبل أسبوع: "عليك دفع 60 ألف دولار بدل إيجار مفعول رجعي من العام 2015، أو إخلاء البيت". وهي تسكن هذه الشقة بإيجار قديم منذ السبعينيات. ورغم أنها تُقرّ بأن قيمة الإيجار الحالي مجحفة بحق المالكة، لكنها تضيف: "ينبغي أن نتحاسب بمنطق وعقلانية".

في الضاحية الجنوبية، يقف طبيب نفسي، فضّل عدم الكشف عن اسمه، على حافة الإخلاء من عيادته. ويقول: "لسنا ضد المالكين، لكن لا يمكننا تحمّل الإخلاء المفاجئ في ظل هذه الظروف الاقتصادية والأمنية الخانقة. أزاول مهنتي هنا منذ أكثر من 35 عاماً، واستثمرت كلّ ما أملك في الشقة. والآن يُطلب مني دفع إيجار جديد يتماشى مع الأسعار الرائجة… وهي أسعار خيالية لا قدرة لي على دفعها".

هذان مثلان عن المستأجرين القدامى يعبران عن المستأجرين الذين يواجهون إنذارات إخلاء، أو مطالبات بمبالغ تعجيزية لا قدرة لهم عليها، عقب نُشر قانون "تحرير الإيجارات غير السكنية" في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 حزيران 2025.

صراعات بين المالك والمستأجر
في بلد فقد السيطرة على قطاع السكن منذ عقود، تحوّل القانون إلى شرارة جديدة في أزمة لم تهدأ يوماً. وعلى وقع هذه الأزمة، تتعدد الروايات بين مالك يشعر بالظلم ومستأجر يعيش القلق. فعلى ضفة مالكي الشقق ثمة شعور كبير بالغبن. علي فواز، مالك شقّة في الرملة البيضاء، يقول إنه لم يتسلّم أكثر من عشرة دولارات سنوياً منذ عام 2015، واضطرّ للعيش في فندقٍ متواضع براتبه الضئيل.

ويروي لـ"المدن": "حاولت الوصول إلى تفاهم مع المستأجرين، لكن من دون جدوى. اليوم أملك عقاراً أشبه بورقة بلا وزن قانوني، ولا منزل أعود إليه".
وفي شارع "الطريق الجديدة"، لا تختلف الصورة كثيراً. فاطمة عيتاني، إحدى الورثة، تتحدّث لـ"المدن" عن محلٍّ عائلي كان يؤجّره والدها مقابل مليون ليرة شهرياً. تقول: "لا أطالب بأكثر من حقي. هذا ليس عدلاً. لا أستطيع استثمار العقار أو ترميمه بسبب هذه العقود القديمة المجحفة. القانون الجديد يمنحنا شيئاً من العدالة بعد سنوات من الظلم، لكن من الضروري أن يُطبّق بروح من التوازن".

المطالبة بمفعول رجعي
تزداد الصورة تعقيداً مع شروع بعض المالكين بالمطالبة بمفعول رجعي منذ العام 2015، كما حصل مع شيرلي شقير وأحد أقربائها، إذ تلقّيا إنذارات بالإخلاء أو دفع مبلغ 55 ألف دولار. تقول شيرلي لـ"المدن": "الوضع الاقتصادي تغيّر كثيراً خلال السنوات العشر الماضية. من حقّ المالك أن يستعيد حقّه، لكن من حقّ المستأجر أيضاً أن يعيش بكرامة".

لكن المطالبة بمفعول رجعي تسلك مساراً عشوائياً. ففي العام 2015 أنشئ "صندوق دعم الإيجار للسكن" ليكون ملاذاً مؤقتاً للمستأجرين القدامى. كُلّف خلاله تشكيل لجان مركزية ومحلية مهمّتها إحصاء العقود القديمة وتحديد المستحقين للمعونة، على أساس معايير دخل الأسرة وعدد أبنائها ومدة عقود الإيجار. ولا يحق للمالك مطالبة مستأجر منتمٍ للصندوق ومستوفي الشروط القانونية بمفعول رجعي.

وفي هذا السياق تقول مستأجرة قديمة، فضلت إبقاء إسمها مغفلاً (وصلها انذار بدفع إيجارات مع مفعول رجعي): "في عام 2015، تقدّمنا بطلب إلى الصندوق، ونحن مشمولين بنسبة 100 بالمئة وبالتالي سنتبع المسار القانوني...".

المحامية أنديرا الزهيري، رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات، تشرح أنه لا يحق للمالك مطالبة مستأجر مستوفي شروط الاستفادة من حساب الدعم ببدلات إيجار رجعي أو أي زيادة، إذا كان فعلا مستفيداً ومستوفياً للشروط المطلوبة لقبول طلبهم من حساب دعم المستأجر. وعلى المالك تبليغ المستأجر بموجب كتاب موجه بواسطة الكاتب العدل، لحفظ حقه لجهة المطالبة ببدلات الإيجار. وتؤكد أن "الإهمال بحماية الحقوق للفريقين تتأثر بمرور الزمن وترتد سلباً على حماية حقوقهم".

ولفتت إلى أن عقود الإيجار القديمة بدأت تتقلّص، "بحسب وزارة المالية عام 2019، كان هناك 64 ألف عقد سكني قديم و25 ألفاً غير سكني. الآن تضاءلت الأرقام، إما بفعل التسويات، أو الاستردادات القضائية، أو لأن المستأجرين اشتروا، أو بسبب فقدان الأبنية كما حصل إثر انفجار المرفأ والحرب".

جدل قانوني بين الطرفين
تتمنى الزهيري "عدم الاعتراض على القانون أو عرقلته، لأننا بحاجة لقوانين جديدة تنظيمية تعيد التوازن في عقود الإيجارات تدريجياً، تخضع لقانون موحد قائم على حرية التعاقد. وهذا يندرج في خانة الإصلاحات ويعيد التوازن والعدالة الاجتماعية بين المواطنين بما في ذلك تحسين الجباية والضرائب".

بخلاف زهيري تعتبر المستشارة القانونية للجنة الاهلية للمستأجرين المحامية مايا جعارة، أن القانون كارثي وإشكالي. وتشرح: "مرّ القانون من خلف ظهر البرلمان، وأعيد من الأمانة العامة لمجلس النواب إلى مجلس الوزراء، من دون أي احترام لمبدأ فصل السلطات. ولم يُعرض على الهيئة العامة، ولم يناقش بهواجس الطرف الأضعف في المعادلة، أي المستأجر".
وتضيف إن هذا القانون ليس فقط إشكالياً، بل "كارثي في آليته ونتائجه"، معتبرة أن تمريره بهذا الشكل هو دليل جديد على "أننا نعيش في مزرعة، لا دولة".

أزمة السكن في لبنان أشبه بعقدة مستعصية. وقد تضاعف الضغط على السكن بفعل موجات النزوح السوري والحرب الإسرائيلية الأخيرة. وتقول جعارة: "السلطة التشريعية تجاهلت بشكل فاضح الظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد منذ العام 2019، من انهيار الليرة، إلى الحرب الأخيرة، إلى انسداد الأفق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفضّلت أن تتبنّى ورقة المالكين بالكامل".
وتضيف: "كيف يمرّ قانون لتحرير الإيجارات في زمن يقتات فيه الناس من الإعاشات؟ من الذي يحمي الحِرَفيّ والموظف والتلميذ والمريض إذا ما طُرد من مكان عمله أو عيادته أو مدرسته؟".

دولة بلا سياسة سكنية
بعد عقود من السياسات المرتبكة، بقي ملف السكن في لبنان رهينة المقاربات الجزئية والتدخلات المحدودة، من دون بلورة سياسة إسكان، وطنية، واضحة، وشاملة. فبين اعتماد واسع على الملكية العقارية كأداة ادخار واستثمار، وغياب أي إطار فعّال للتخطيط العمراني، وتضارب المصالح الحادّ بين المالكين والمستأجرين، تعقّد المشهد إلى حدّ الانفجار.


منذ إقرار قانون الإيجارات السكنية عام 2014، الذي استهدف العقود القديمة الموقّعة قبل 23 تموز 1992، بدأت شرارة نزاع اجتماعي لم تهدأ، خصوصاً في ظل غياب بدائل تحمي الفئات الأضعف.

وقد أُقرّ القانون في مجلس النواب في كانون الأول 2023. إلا أن الحكومة التي كان يترأسها نجيب ميقاتي عطّلت تنفيذه، ثم أُعيد نشر القانون في 3 نيسان 2025، لكن عدداً من النواب ورئيس الجمهورية طعنوا في صلاحيته، بعدما كان المجلس الدستوري قد أبطل مفعوله بسبب خلل في أصول النشر. بعد ذلك، سلك القانون المسار القانوني الصحيح، ونُشر مجدداً في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 حزيران 2025.