"الهيئات" ممتعضة من قرار الضمان التصريح برواتب لا تقلّ عن 20 مليون ليرة

بعد الانحسار المشوب بالحذر للفوضى النقدية، والتأرجح الذي ساد طويلا في سعر الصرف وتعدّده، وبعد ثبات الإستقرار لما يقرب من سنة برعاية مصرف لبنان وعائدات بعض القطاعات وخصوصا السياحية منها، كان لا بد من أن تتحرك الدولة ومؤسساتها المالية والخدماتية لمواكبة المستجدات التي طرأت، وملاقاتها بما يفيد في إعادة تفعيل خدماتها وأنشطتها بعدما قضى الإنهيار وسقوط سعر العملة الوطنية على أي إمكان للنهوض مجددا من دون اللجوء إلى تصحيح الخلل في واردات المؤسسات الخدماتية، وفي المالية العامة على حد سواء.

إلى الإنهيار المالي، كان لتعدد أسعار الصرف وتقاعس الدولة في تبنّي الواقع الحقيقي، وعدم تعديل الرسوم والإشتراكات بالسرعة اللازمة، الأثر الكبير في تعميق الفجوة المالية لمؤسساتها، وخصوصا الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يحتاج أكثر من غيره الى رعاية استثنائية تتأتى من استثنائية دوره ووظيفته في حماية الأمن الصحي والإستشفائي والإجتماعي لمعظم الطبقة العاملة في لبنان.

بقاء الإشتراكات في الضمان عند الحدود الدنيا في موازاة الإرتفاع الجنوني لفواتير الطبابة والإستشفاء وغيرهما من الخدمات التي تؤول مسؤوليتها إلى المؤسسة التي تعتبر أكبر الجهات الضامنة في البلاد وأقواها، كاد أن يشلّ خدماتها كليا ويقعدها عن واجباتها، ويزيد في إفقارها خصوصا بعد ضياع ما يعادل مليارات الدولارات من احتياطاتها في الإستثمار بسندات الخزينة والمصارف.

لم يعد الإنتظار ممكناً، وكان على إدارة الصندوق أن تتحرك وتتخذ ما يلزم من إجراءات تعيد تصويب الأمور بما يخدم التوازن المالي في الصندوق ما أمكن، وتحقيق عدالة الجباية واستيفاء الإشتراكات، وقطع الطريق على أرباب عمل أو مستفيدين يمارسون التهرب من تسديد النِّسب الحقيقية من الإشتراكات من خلال التلاعب ببيانات الرواتب والمداخيل الشهرية للأجراء.

الخسائر التي مُني بها الضمان خلال الإنهيار النقدي كبيرة وقاسية، لكن دفن الرؤوس في الرمال والتغاضي عن حقيقة الواقع المالي للصندوق، والقبول بإبقاء الإشتراكات المموِّل الوحيد للصندوق دون المستوى الذي يسمح للضمان بممارسة "ضمانته" على المشتركين والعمال والموظفين، غير ذي جدوى.

من هنا كانت التعاميم الأخيرة التي حدد فيها الضمان الحد الأدنى للإشتراكات، والطلب بإحالة مَن تدور حوله شبهة إلتفاف على القانون أو تهرّب، إلى "مديرية التفتيش والمراقبة" لإجراء المقتضى، فيما بالتوازي رُفع سعر الصرف للدولار الواحد في جميع معاملات الضمان إلى 89.500 ليرة بعدما كان 15 ألف ليرة أسوة بباقي مؤسسات الدولة.

سياسة الخروج من تعدد أسعار الصرف والواقعية في مقاربة الأمور النقدية والمالية التي يعتمدها الضمان ليست بالضرورة تماهياً مع مطالب صندوق النقد الدولي المستجابة بالتدرج من الدولة، أو التزاماً بالنصح والإرشادات العلمية فحسب، بل لإعادة تصويب التوازن المالي المنهك في المؤسسة وتأهيلها ماليا وملاءة، لتبقى قادرة على رفد الأمان الصحي والإجتماعي للبنانيين بالدعم والمساندة، ولتبقى صمام أمان للطبقات الفقيرة والمتوسطة، أو ما بقي من الأخيرة.

ولكن الى أي حد ستلتزم الشركات بهذا التعميم؟ وماذا عن المؤسسات المكتومة التي لا تقدم تصاريح عن عمالها الى الضمان الإجتماعي؟

القراران الاخيران للمدير العام للصندوق لم ينزلا برداً وسلاماً على الهيئات الاقتصادية التي تداعت للاجتماع وتدارس مفاعيلهما على موازنات مؤسساتها والخطوات المزمع اتخاذها لبناء تفاهم مشترك مع ادارة الضمان بما يحفظ حقوق العمال والمضمونين والتوازن المالي للصندوق من جهة، والامكانات المالية للمؤسسات والشركات التجارية والانتاجية من جهة أخرى.

وفيما لم يصدر بيان عن المجتمعين يشرح مآل الامور والمداولات والموقف النهائي للهيئات، أكد رئيسها محمد شقير لـ"النهار" أن الهيئات لديها الكثير من الملاحظات والمخاوف من مسألة الزام المؤسسات بالتصريح عن الرواتب على أن لا تقل عن 20 مليون ليرة، وكشف أنها ستجتمع مع المدير العام للضمان محمد كركي هذا الاسبوع لتبني على الشيء مقتضاه، على أن تعقد الهيئات اجتماعا آخر خلال يومين لمزيد من التشاور قبل الاجتماع مع كركي. وإذ أشار الى أن تحديد سعر صرف الدولار الأميركي الذي على أساسه تُحتسب اشتراكات المضمونين الذين يتقاضون أجورهم بشكل كلّي أو جزئي بعملة أجنبية بحسب السعر الرسمي الأعلى المعتمد من مصرف لبنان حاليا (89,500 ليرة) أمر لا مفر منه كونه صدر بمرسوم، أشار الى أن الذي يكبّل المؤسسات والشركات هو موضوع التصريح عن الرواتب بما لا يقل عن 20 مليون ليرة، خصوصا أن بعض المؤسسات خارج بيروت وجبل لبنان لا تسدد رواتب لموظفيها بهذا المبلغ، حتى أن بعضها لا يزال يسدد 9 ملايين ليرة.

ويبدو ان "الهيئات الاقتصادية" أبدت انزعاجها من طلب المدير العام للضمان من جميع المديريات والمكاتب الاقليمية والمحلية إحالة المؤسسات التي تتقدم بتصاريح أجور أو تصاريح استخدام أو ترك تتضمن أجورا أقل من 20 مليون ليرة شهريا، الى مديرية التفتيش والمراقبة، الامر الذي فسّره بعض اصحاب العمل أن كركي يحدد الادنى للاجور، لكن الاخير أكد لـ"النهار" أنه يمارس مهامه بالتفتيش عن المؤسسات التي لا تصرح بالأجر الحقيقي الذي لا يمكن أن يقل عن 20 مليون ليرة، وتاليا فإن التصريح بأقل من هذا المبلغ هو حتما تصريح كاذب ويتوجب ملاحقة صاحب العلاقة.

واذ أكد أن المؤسسات، بغالبيتها، لا تزال حتى اليوم تصرح لدى الصندوق على أساس الحد الأدنى للأجور، بما يتسبب بخسارة كبيرة في إيرادات الصندوق المالية وتاليا يحدّ من قدرته على تأمين التقديمات الصحيّة والإجتماعية اللازمة، أشار كركي الى ان عددا منهم بدأ يتجاوب بالتصريح عن الرواتب بما لا يقل عن 20 مليون ليرة، بما سيكون له تأثير مالي على مالية الضمان، أما القرار الاخير المتعلق بتسديد الاشتراكات على سعر الصرف الذي حدده مصرف لبنان والموازنة فله تأثير ايجابي على تعويضات نهاية الخدمة (كونها من دون سقف)، في حين أن سقف فرعَي المرض والامومة والتعويضات العائلية محدد على 12 و18 مليون ليرة، حتى وإنْ صرح صاحب العمل بالراتب الحقيقي للموظف على سعر الصرف المعتمد رسميا.

وعلى رغم عدم وجود احصاء دقيق للمؤسسات التي تدفع جزئيا أو كليا لموظفيها بالدولار، علما أن كركي يرجح أن نسبتها لا تتجاوز الـ 5%، أصدر المدير العام قرارا قضى بموجبه تحديد سعر صرف الدولار الأميركي الذي على أساسه تُحتسب اشتراكات المضمونين الذين يتقاضون أجورهم بشكل كلي أو جزئي بعملة أجنبية بحسب السعر الرسمي الأعلى المعتمد من قِبل مصرف لبنان حاليا (89,500 ليرة) وذلك اعتبارا من01/02/2024.

هذه الخطوة برأي كركي تأتي انسجاما مع "توجهات وقرارات السلطات السياسية والمالية كافة في البلاد (مجلس النواب، مجلس الوزراء، المصرف المركزي) حيال توحيد سعر صرف الدولار الأميركي في المعاملات كافة، ومن شأنها تحقيق نوع من التكافل والتعاون بين أصحاب العمل والضمان، والذي يصب في مصلحة العمّال المضمونين ويحسّن مستوى معيشتهم ويحفظ حقوقهم على المدى الطويل، اضافة الى تأثيرها المباشر والسريع على التقديمات الصحيّة التي يوفرها الصندوق".

من جهته، رحب رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر بقراري الضمان الاجتماعي، وخصوصا المتعلق بتحديد سعر الصرف على 89 الفا و500 ليرة بما من شأنه تأمين ايرادات اضافية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فمعظم الشركات التي تسدد رواتب موظفيها بالدولار، تسدد للضمان اشتراكاتها على سعر 15 الف ليرة، الامر الذي يلحق خسائر كبيرة بصندوق الضمان. وإذ أكد ان معظم المؤسسات والشركات اللبنانية ما زالت تصرح عن رواتب موظفيها على اساس الحد الادنى للاجور، اي 9 ملايين ليرة، فيما اذا استثنينا المياومين، من النادر ان نجد موظفا لا يزال راتبه 9 ملايين، أشار الى ان الاتحاد العمالي كان يسعى قبل حرب غزة الى رفع الحد الادنى للاجور ليصبح 20 مليون ليرة بما سيجبر المؤسسات على التصريح بالمبلغ لدى الضمان، لكن حينها اعترضت الهيئات الاقتصادية على هذا الطرح متذرعة بالآثار الاقتصادية للحرب.

وتطرق الاسمر الى المادة 92 من قانون موازنة 2024 التي تنص على دفع التعويضات على اساس 15 الف ليرة، بما يشكل برأيه ظلما لموظفي القطاع الخاص الذين يتقاضون اليوم رواتبهم جزئيا او كليا بالدولار الاميركي، مرجحا أن تكون المادة ادرجت على عجل شأنها في ذلك شأن المادة التي تفرض ضريبة على ارباح المستفيدين من الدعم، ووضع الكثير من المواد والبنود في اطار "الشعبوية" التي يستحيل اقرارها وتطبيقها. وشدد على ضرورة تفعيل الربط الضريبي في الدولة اللبنانية بين وزارة المال والضمان الاجتماعي.

ولا يتوقع الاسمر أن تلتزم الهيئات الاقتصادية قرارَي الضمان، "فهي كعادتها تتهرب من الدفع وتسجل اعتراضها على كل القرارات التي تفاقم نفقاتها".